اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة باستفتاح أهل الكتاب بحقه قبل وجوده

اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة باستفتاح أهل الكتاب بحقه قبل وجوده







الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ثم أما بعد؛ فلما كان توسل الأنبياء السابقين بحق النبي صلى الله عليه وسلم جائزا عند القوم، كان توسل أو استفتاح[1] أممهم بحق النبي صلى الله عليه وسلم جائزا عندهم من باب أولى وأحرى.
فقد أورد السيوطي في الخصائص الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم حديثا يبين استفتاح أهل الكتاب بحق النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخلق[2].
هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك[3] موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما قال:" كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت بهذا الدعاء، اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] الآية، قال الحاكم بعد إخراجه للحديث:" أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير وهو غريب من حديثه"[4].
والكلام على هذا الحديث من نقطتين:
النقطة الأولى: أقوال أهل العلم في تضعيف الحديث.
بالنظر إلى سند الحديث نجد فيه عبد الملك بن هارون بن عنترة:
قال فيه يحيى بن معين :"كذاب"[5].
وقال النسائي:" متروك الحديث"[6].
وقال البخاري:" منكر الحديث"[7].
وقال الدارقطني:" وأبوه أيضا متروك"[8].
وقال ابن حبان:" كان ممن يضع الحديث، لا يحل كتابة حديث إلا على جهة الاعتبار"[9].
وعلق الذهبي على قول الحاكم:" أدت الضرورة إلى إخراجه" بقوله:" لا ضرورة في ذلك فعبد الملك متروك هالك"[10].
قال ابن حجر:" المحفوظ عن ابن عباس ما تقدم، وأما هذا الطريق بهذا اللفظ أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عنه[11]، واعتذر عن إخراجه فقال: غريب من حديث أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير، قلت: وأي ضرورة تحوج إلى إخراجه حديث من يقول فيه يحيى بن معين كذاب في المستدرك على البخاري ومسلم، ما هذا إلا اعتذار ساقط"[12]، وحكم السيوطي نفسه بضعف هذه الرواية[13].
مخالفة رواية عبد الملك بن هارون للثابت من الروايات:
الرواية الأولى: وهي المحفوظة عن ابن عباس رضي الله عنهما والتي أشار إليها الحافظ ابن حجر قريبا ورواها الطبري بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال:" إن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله جل ثناؤه في ذلك من قولهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
الرواية الثانية: وهي رواية محمد بن إسحاق إمام المغازي قال:" حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا لما كنا نسمع من رجل يهود وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم وليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا لنا منهم بعض ما يكرهون قالوا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقاتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به، وكفروا به.
ففنا وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [البقرة: 89][14].
فمحمد بن إسحاق قال عنه ابن حجر: إمام المغازي صدوق يدلس[15]، وقد صرح في هذه الرواية بالتحديث.
وأما عاصم بن عمر بن قتادة: فهو الأوسي الأنصاري ثقة عالم بالمغازي[16].
هذا وقد ذكر الطبري خمسة عشر حديثا في سبب نزول قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] ولم يذكر من بينهن رواية عبد الملك بن هارون، بل قد صدر برواية ابن إسحاق[17] التي حسن إسنادها مقبل بن عادي الوادعي[18].
أوجه مخالفة رواية عبد الملك بن هارون للروايات الثابتة:
الوجه الأول: مخالفتها للمحفوظ من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، وأن أقل درجات رواية عبد الملك الضعف، وأما رواية ابن إسحاق فأقل درجاتها الحسن.
الوجه الثاني: جاء في رواية عبد الملك أن يهود خيبر كانت تقاتل غطفان والصحيح ما جاء في المحفوظ من رواية ابن عباس من أن اليهود هم بنو النضير وبنو قريظة وهم من يهود المدينة، وأن مشركي العرب هم الأوس والخزرج ، لا سيما غذا علمنا أن راوي حديث ابن إسحاق هو عاصم بن عمر الأوسي الأنصاري وقد نص على أن الآية نزلت فيهم حدثه بذلك رجال من قومه وعاصم بن عمر ثقة عالم بالمغازي.
قال ابن تيمية في صدد تعليقه على رواية عبد الملك في سبب نزول الآية:" إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة كبني قينقاع وقريظة والنضير وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج، إلى أن قال: فكيف يقال نزلت في يهود خيبر وغطفان؟
فإن هذا من كذاب جاهل لم يحسن كيف يكذب، ومما يبين ذلك أن ذكر انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب، ولو كان هذا مما وقع لكان مما تتوفر دواعي الصادقين على نقله"[19].
الوجه الثالث: جاء في رواية عبد الملك بن هارون أن يهود كانوا يسألون الله بحق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما لم يرد في المحفوظ من رواية ابن عباس رضي الله عنهما ولا في رواية ابن إسحاق المتفق على قبولها.
وهذا وقد ذكر الطبري روايات كثيرة عن اهل العلم تبين ما المراد باستفتاح اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء في الآية الكريمة[20] هذا بعضها:
الأولى: قال الطبري: قال ابن أبي نجيح عن الأزدي في استفتاح اليهود:" كانوا يقولون: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس يستفتحون يستنصرون به على الناس"[21].
الثانية: وقال: قال أبو العالية:" كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين ويقتلهم فلما بعث الله محمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم"[22].
الثالثة: وقال:" قال السدي: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في التوراة، ويسألون الله أن يبعثه فقاتلوا معه العرب، فلما جاءهم ما محمد كفروا به ين لم يكن من بني إسرائيل"[23].
فهذه الروايات تبن بيانا واضحا أن المقصود باستفتاح أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم هو سؤالهم الله تعالى أن يبعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم حتى يقاتلوا معه مشركي العرب، لا السؤال ولا الاستنصار بحقه صلى الله عليه وسلم.


الهوامش:
[1] الاستنصار، انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي (298).
[2] (2/39-40).
[3] (2/263).
[4] المستدرك (2/263).
[5] يحيى بن معين وكتابه التاريخ (2/376).
[6] النسائي: الضعفاء والمتروكون (70).
[7] البخاري: التاريخ الكبير للبخار (5/436).
[8] الضعفاء والمتروكون للدراقطني (289).
[9] كتاب المجروحين (2/133).
[10] الذهبي: التلخيص (2/263).
[11] أي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[12] العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني (64).
[13] السيوطي: لباب النقول في أسباب النزول (21).
[14] تفسير الطبري: المصدر السابق، وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية (1/225)، وابن كثير تفسير القرآن العظيم (1/129)، السيوطي: لباب النقول (21).
[15] تقريب التهذيب (467).
[16] المرجع السابق (286).
[17] الطبري: التفسير (1/225).
[18] الوادعي: الصحيح المسند في أسباب النزول (14).
[19] قاعدة جليلة (228).
[20] إضافة إلى بيان رواية ابن عباس رضي الله عنهما ورواية ابن إسحاق.
[21] الطبري: جامع البيان (1/326).
[22] المرجع السابق.
[23] المرجع السابق .

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة باستفتاح أهل الكتاب بحقه قبل وجوده doc
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة باستفتاح أهل الكتاب بحقه قبل وجوده pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى