اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه يجيب الدعاء وترفع إليه أكف الضراعة

اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه يجيب الدعاء وترفع إليه أكف الضراعة






الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد قال البراعي:
وهاك جوهر أبيات بك افتخرت           جاءت بخط أسير الذنب يرقمه
فانهض بقائلها عبد الرحيم ومن            يليه إن هم صرف الدهر يدهمه
اجعله منك بمرعي العين مرحمة                       إذا ألم به من ليس يرحمه
وإن دعا فأجبه وأحم جنابه                يا خر من دفنت في القاع أعظمه[1]
وقال أيضا :
أبني طال بك السقام فليتني                أفديك لو ولد بوالده فدي
أبني ما بيدي لمثلك حلية         لكن أمد إلى ابن آمنة يدي[2]
قال النبهاني: قال فتح الله بن النحاس:
يا رب بابك بابه                  ورجاي فيك وفيه طامع
طورا أنادي رب رب     وتارة يا خير شافع[3]
قال البرعي:
وليس معي زاد ولا لي وسيلة      سوى هاشمي بالبهاء متوج
ألوذ به ذاك الجناب فأحتمي      بمن هو عند الكرب للكرب مفرج
وأدعوه في الدنيا فتقضى حوائجي          وإني إليه في القيامة أحوج[4]
خص الغلاة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما سبق من النصوص (بأنه يجيب الدعاء وترفع إليه أكف الضراعة)
       وهذا أيضا من خصائص الله تعالى التي لا يجوز صرف شيء منها لغيره تعالى، فقد أمر سبحانه بإخلاص الدعاء له وحده، قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
       وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ}.
       وقد نهى الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعبد الذين يدعون من دون الله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} الآية.
       فخص الله تعالى بالذكر من دون سائر عبادات المشركين لأوثانهم لمكانة الدعاء من بين العبادات، لذلك قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}.
       قال ابن جرير نقلا عن مجاهد واختاره: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} قال: يعبؤا: يفعل، وقوله: {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} يقول: لولا عبادة من يعبده وطاعة من يطيعه منكم"[5].
       قال ابن كثير في قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي}: "أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه"[6]، فسمى الله تعالى الدعاء عبادة وخصه بالذكر من دون سائر العبادات ولولا تلك العبادة لم يكترث الله بنا، لذلك مدح الله عباده الذين لا يدعون غيره قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}.
وضرب الله تعالى المثل للناس زيادة في البيان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
       وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته آداب الدعاء التي يدعو بها العبد ربه، فمن ذلك رفع اليدين في الدعاء، وبذلك بوب البخاري في صحيحه قائلا:" باب رفع الأيدي في الدعاء، وقال أبو موسى الأشعري:" دعا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه" وقال ابن عمر:" رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" ثم روى بسنده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه"[7].
       وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تبين أن رفع اليدين من الآداب المستحبة في الدعاء فدعاء غير الله تعالى من الشرك الأكبر والظلم العظيم الذي رتب عليه رب العزة والجلال من العقوبات ما لم يرتبه على ذنب سواه.
       يقول ابن القيم: " إن الشر كلما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكرت المنكرات، كان أبغض الأشياء إلى الله وأكرهها له، وأشدها مقتا لديه.
       ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا}، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا}، وحرم ذبائحهم قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
       ومناكحتهم قال تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
       وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
       وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين قال تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ}[8]، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدا، وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
       فلم يجمع أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك فإنهم ظنوا به ظن السوء، حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره ثلاثة مواضع من كتابه، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا وندا، يحبه، ويخافه، ويرجوه، ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته؟ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.
       أي يجعلون له عدلا في العبادة والمحبة والتعظيم، وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا-وهم في النار أنها كانت ضلالات وباطلا، فيقولون لآلهتهم وهم في النار معهم: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ومعلم أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: إن آلهتهم خلقت السموات والأرض، وأنها تحيي وتميت، وإنما ساووها به في محبتهم لها وتعظيمهم لها وعبادتهم إياها، كما ترى عله أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام، ومن العظم أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن قالوا: إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وأنهم لا يشفعون لعبادهم أبدا، بل قد حرم الله شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة، فلس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه، والولاية له فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع"[9].
       وهنا قد يتساءل أصحاب الفطر السليمة ألا يكفي في الرد على هؤلاء الغلاة بشأن مقالاتهم المزعومة في جعل خصائص للنبي صلى الله عليه وسلم هي من جنس خصائص الربوبية والإلهية أن تعرض مجرد عرض، فإن مجرد العرض يكفي لمجها والنفرة منها؟
       أقول: هذا التساؤل وجيه، ولكن إذا عرف السبب فعسى أن يزول العجب وهو أن أولياء الغلاة أحكموا القبضة على مريديهم وأتباعهم بتأليف أوراد مبتدعة صرفوهم بها عن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، واخذوا عليهم العهود والمواثيق في الاشتغال بها صباح مساء وأن من نسيها فعليه القضاء وأن من تركها بالكلية فسيقع عليه الهلاك والدمار، وفي هذا يقول طاهر ميغري البرناوي-وكان خليفة من خلفاء الطريقة التيجانية-:" لما رسم الشيخ التجاني لأتباعه دائرته التي قرر أنها كانت مكنوزة وراء جميع دوائر دين الإسلام، بقصد محوه وإزالة جميع آثاره ومبادئه وتعاليمه من قلوبهم أدرك أنه إذا تركهم يقرؤون القرآن فإنها لا محالة ينسون أنهم كانوا في تلك الدائرة لأنها في الحقيقة لا وجود لها في الوهم فقط، بل يدركون ضلالته في النهاية ويتخلون عنه بالمرة مستعيذين بالله من همزاته، ولذلك فكر في طريقة سهلة يصرفهم بها عن قراءة القرآن وهم لا يعلمون ومن ذهب يزين لهم صلاة الفاتح التي زعم أن الملك هو الذي نزل بها في صحيفة من نور وأنها أضل من القرآن ستمائة مرة أو ستة آلاف مرة"[10].
       فأتباع كبار الغلاة من أبعد الناس عن الكتاب والسنة وفهمهما والعمل بهما وربما لأول مرة تطرق مثل هذه الحجج والبراهين قلوبهم وأنهم مخاطبون بها أيضا وأن القرآن لم ينزل يتوعد مشركي العرب فقط كما سبق بيانه، فعسى أن يفيق من ألقى السمع وهو شهيد، وأما الذين لهم شيء من علم الكتاب والسنة منهم فإن غالبهم يسخر ذلك في تتبع المتشابه وإلقاء الشبه وتزيينها للعوام والله المستعان.

الهوامش:
[1] ديوان البرعي (74-75) مع شرحه.
[2] المرجع السابق (176).
[3] شواهد الحق (380).
[4] ديوان البرعي (190) مع شرحه.
[5] تفسير ابن جرير (19/35).
[6] تفسير ابن كثير (3/343).
[7] كتاب الدعوات (11/141)، مع الفتح.
[8] لم يذكر ابن القيم رحمه الله هذه الآية والآيات التي قبلها ضمن كلامه إنما ذكرتها إكمالا للفائدة.
[9] إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم (1/99-100).
[10] انظر: التحفة السنية في توضيح الطريقة التجانية لطاهر ميغري البرناوي (127).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه يجيب الدعاء وترفع إليه أكف الضراعة doc
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه يجيب الدعاء وترفع إليه أكف الضراعة pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى