اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بعلم الغيب وعلم ما في الضمير واللوح المحفوظ

اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بعلم الغيب وعلم ما في الضمير واللوح المحفوظ







 الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ فقد قال شعراؤهم: "ناداك من برع" "تعلم ما حواه الضمير"، "ومن علومك علم اللوح والقلم"، وهذه من خصائص رب الأرض والسموات قال تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}، وقوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}، بل إن الله تبارك وتعالى أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن ينفي الغيب عن نفسه قال تعالى: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}.
 وقوله تعالى: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وأخبر سبحانه وتعالى أنه العليم بذات الصدور، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، وقال نبي الله عيسى عليه على نبينا الصلاة والسلام مخاطبا ربه جل وعلا: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.
 ولا يعترض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب بقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}، قال ابن عباس واختاره ابن جرير:" أعلم الله الرسل من الغيب الوحي وأظهرهم عليه بما أوحى إليهم من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك الوحي وأظهرهم عليه بما أوحى إليهم من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره"[1] فالذي يعلمه الرسل من الغيب إنما هو عن طريق الوحي.
 وأما بيت البوصيري: فيرد عليه الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري وهو من القوم الذين فيهم إنصاف حيث يقول معلقا على البيت:" ومن علومك علم اللوح والقلم" ففي هذه الدعوى مبالغة ليس عليها دليل وقد اصلحت هذا البيت بقولي:
فإن جودك في الدنيا وضرتها  وفي كتابك علم اللوح والقلم
 إلى قوله: والمقصود أن الغلو في المدح مذموم لقوله تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} وأيضا فإن مادح النبي صلى الله عليه وسلم بأمر لم يثبت عنه يكون كاذبا عليه فيدخل في وعيد:" من كذب علي متعدا فليتبوأ مقعده من النار وليست الفضائل النبوية مما يتساهل فيها برواية الضعيف ونحوه لتعلقها بصاحب الشرعية ونبي الأمة الذي حرم الكذب عليه وجعله من الكبائر العظيمة حتى قال: أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين بكفر الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فما يوجد في كتب المولد النبوي وقصة المعراج من مبالغات وغلو لا أساس له من الواقع يجب أن تحرق لئلا يحرق أصحابها وقارئها في نار جهنم نسأل الله السلامة والعافية"[2].
 وقول الغماري:" وليست الفضائل النبوية مما يتساهل فيها برواية الضعيف..." إلخ يصحح مفاهيم صاحب كتاب" مفاهيم يجب أن تصحح" الذي يقول:" ولم يزل العلماء يتسامحون في نقل الخصائص النبوية وينظرون إليها على أنها داخلة في فضائل الأعمال ولا تتعلق بالحلال والحرام وعلى هذا بنى العلماء قاعدتهم في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ما دام أنه ليس موضوعا ولا باطلا بشروطهم المعتبرة في هذا الباب ولا يشترطون فيها الصحيح بالمعنى المصطلح عليه، ولو ذهبنا إلى اشتراط هذا الشرط الشاذ لما أمكن لنا ذكر شيء من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة مع أنك تجد كتب الحفاظ الذين عليهم العمدة وعلى صنيعهم المعمدة وعلى صنيعهم المعمول والذين منهم عرفنا ما يجوز وما لا يجوز وما أخذ عن الكهان وأشباههم في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأن ذلك مما يجوز ذكره في هذا المقام"[3].
 ومن العجيب في الأمر أن صاحب كتاب المفاهيم المذكور ذكر في مقدمة كتابه أن الغماري يوافق موافقة تامة ويؤيد تأييدا كاملا ما جاء في كتابه مفاهيم يجب أن تحصص[4]، فهل غض الغماري الطرف عن مقالة المالكي تلك في التساهل برواية الضعيف في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بوذا يكون قد كتم الحق الذي يدين الله به ويعتقده؟
 ولا أظن أن هذه المسألة تخفى عليه وهو المتخصص في علوم الحديث والإسناد وهو محدث المغرب بل محدث الدنيا كما قال صاحب المفاهيم[5] أو أن صاحب المفاهيم نسب إلى الغماري ما لم يقله، وهناك مفهوم آخر يجب أن يصحح لصاحب كتاب مفاهيم يجب أن تصحح في مفهوم العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال وهو أن الذين قالوا بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال إنما يعنون بالحديث الضعيف الحديث الحسن.
 قال ابن تيمية:" ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه، ولكن كان في عرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح وضعيف، والضعيف عندهم نقسم إلى ضعيف متروك ولا يحتج به وإلى ضعيف حسن، إلى قوله: وأول من عرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام صحيح وحسن وضعيف هو أبو عيسى الترمذي في جامعه، والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ، فهذا الحديث وأمثاله يسميه احمد ضعيفا ولا يحتج به، ولهذا مثل أحمد للحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري"[6].
 وجاء أيضا من جملة تلك الخصائص المزعومة قول شاعرهم يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم:
بك استنصرت فانصرني   ومن تنصره لا يغلب
 فالذي لا يغلب هو الله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} هذه الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين وقد جاءت هذه الآية في سياق الكلام على غزوة أحد التي انهزم فيها المسلمون بسبب اجتهاد الرماة في فهم أمره صلى الله عليه وسلم بعدم نزولهم من الجبل.
 قال القرطبي في تفسير هذه الآية: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي عليه توكلوا فإنه إن يعنكم ويمنعكم عن عدوكم لن تغلبوا {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} يترككم من معونته { فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ} أي من بعده خذلانه إياكم، لأنه قال: {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} والخذلان ترك العون والمخذول المتروك لا يعبأ به"[7].
 فإذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا نصره الله تعالى فلا غالب له وإذا منع منه النصر فلا ناصر له وأن الله تعالى أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاعتماد والتوكل عليه فهل بعد ذلك يسوي بين الله تعالى الذي لا غالب له وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؟
 والله سبحانه وتعالى هو القائل لنبيه وللمؤمنين: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
 بل جميع الأنبياء يعلمون أنه لا ناصر لهم من الله إن هم خالفوا أمره، قال تعالى حاكيا قول نوح عليه السلام: { وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} وقول صالح عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} وقال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ ۚ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ ۚ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ۚ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} فلا يطلب النصر إلا من الله وحده الذي لا يغلب.


الهوامش:
[1] تفسير ابن جرير (29/76).
[2] ملحق عن قصيدة البردة لعبد الله بن الصديق الغماري (77)، بذيل كتاب البوصيري مادح الرسول صلى الله عليه وسلم.
[3] مفاهيم يجب أن تحصص لمحمد علوي المالكي (109-110).
[4] المرجع السابق (19).
[5] المرجع السابق (19).
[6] انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية (136-164) باختصار.
[7] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (4/163).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بعلم الغيب وعلم ما في الضمير واللوح المحفوظ doc
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بعلم الغيب وعلم ما في الضمير واللوح المحفوظ pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى