الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد، فمن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه أول النبيين في الخلق وأنه مرسل إلى الأنبياء وأممهم
يعتقدُ أئمُة الغلاةِ أن النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم خُلِقَ قبلَ الأنبياءِ، وأنه نُبِئَ منذَ ذْلكِ الوقتِ، وأنه مرسلُ إلى جميعِ الأنبياءِ وأممهمِ، فمِمنْ قالَ بذلكِ منهم:
ابنُ عربيَّ، وأبو الحسنِ السبكيِ، والسيوطي، ومحمدُ بنُ عبد الباري الأهدلِ، واستدلوا لذلكِ بالأدلة الآتية:
الدليلالأول: أخرجَ أبو نعيمِ في الدلائلِ بسنده مِنْ رواية أبي هريرة رضيَ اللهُ عنه عَنْ النبي صلى اللهُ عليه وسلم في قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7 الآية]، قالَ:" كنتْ أولَ الأنبياءِ في الخلقِ وآخرهم في البعثِ".
وبالنظرِ إلى سندِ هذاْ الحديثِ نجده معلا بالعللِ الآتية:
أولا: عنعنهُ الحسنِ البصريِ، وهوُ في المرتبةِ الثالثةِ مِنْ مراتبِ المدلسينَ.
ثانيا: عنعنهُ بنُ دعامة السدوسيِ، وهوُ مشهورُ بالتدليسِ.
ثالثا: في سندهِ سعيدُ بنُ بشيرَّ: قالَ فيه يحيى بنُ معينَّ:" ليس بشيءِ".
وقالَ البخاري:" يتكلمون في حفظهِ".
وقالَ ابنُ حبانِ:" كان رديءَ الحفظِ فاحشَ الخطأِ يروي عَن قتادةِ ما لا يتابعُ عليه، وعَن عمرو بن دينار ما ليس مِنْ حديثهِ".
وقالَ الذهبي وابنُ حجرِ:" قالَ محمدُ بنُ نميرِ: سعيدُ بن بشيرِ يروي عَن قتادةِ المنكراتِ".
وأوردَ الذهبي في ترجمةِ سعيدِ بن بشيرِ هذاْ الحديثِ:" كنتْ أولَ النبيينِ في الخلقِ..." وقالَ: هذاْ مَنْ غرائبهِ".
وعليه فالحديثُ ضعيفُ لا تقوم به حجة، وممنْ قالَ بضعفهِ الألباني.
دليلهم الثاني:
حديثُ ميسرة الفجرِ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قلتْ يا رسولَ اللهِ متى كُتبِتَ نبياُ؟ قالَ" وآدمُ عليه السلامِ بين الروحِ والجسدِ"، وحديثُ العرباضِ بن ساريةِ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم:" إني عبدُ اللهِ لخاتمِ النبيينِ، وآدمُ عليه السلامِ لمنجدلِ في طينتهِ" الحديث، هذان الحديثان لا يدلان على مرادِ القومِ، بل يدلان على الكتابة أي أنه صلى الله عليه وسلم كتب نبياُ وآدمُ بينَ الروحِ والجسدِ، وقدْ جاءَ في الحديثِ الأولِ التصريحِ بِذلِكَ وهو موافقُ لحديث ابنِ مسعودِ رضيَ اللهُ عنه في الصحيحينِ قالَ: حدثنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم وهو الصادقُ المصدوقُ، قالَ" إن أحدكم يجمعُ في بطنِ أمهِ أربعينَ يوماَ، ثم يكونُ علقةً مثل ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث اللهُ ملكاً يؤمرُ بأربعِ كلماتِ ويقالَ له: اكتب عملهِ، ورزقهِ، وسعيدَ أو شقيَ، ثم ينفخُ فيه الروحَ..."الحديث، فقد ثبتَ في الحديثِ أن كتابةَ العملِ، والرزقِ، والسعادة ِأو الشقاوةِ تكون قبل نفخِ الروحِ في الجنينِ.
قالَ شيخُ الإسلامَ:" فناسب هذا أنه بين خلقِ آدمُ عليه السلامِ ونفخ الروحِ في تكتب أحوالهِ، ومِنْ أعظمها كتابة سيد ولده صلى اللهُ عليه وسلم".
وعليه فإنما يدلُ الحديثان السابقان على أنه صلى اللهُ عليه وسلم كتبَ نبياَ وآدمَ عليه السلام ما زال بين الروحِ والجسدِ، إلا أن القوم أبو إلا أن يلووا أعناق النصوصِ ليا، لكي تتفق مع أهوائهم فأتوا بأمور حيرت عقولهم قبل الآخرين.
يقول السبكي في كتابهِ التعظيمِ والمنة في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}[ آل عمران: 8] في هذه الآيةُ مِنْ التنويه بالنبي صلى اللهُ عليه وسلم وتعظمُ قدرهُ العلي ما لا يخفى، وفيه مع ذلك أنه على تقديرِ مجيئه صلى اللهُ عليه وسلم في زمانهمِ يكون الأمرُ مرسلاَ إليهم، فتكون نبوتهُ ورسالتهُ عامةَ لجميع الخلقِ من زمنِ آدم إلى يومِ القيامةِ، وتكون الأنبياءُ وأممهم كلهم من أمتهِ، ويكون قوله:" بُعِثتَ إلى الناس كافةَ" لا يختصُ به الناسُ من زمانهِ إلى يومِ القيامةِ، بل يتناولُ من قبلهم أيضا، ويتبينُ بذلكِ معنى قوله صلى اللهُ عليه وسلم :"كنت نبياُ وآدمُ بين الروحِ والجسدِ" وأن من فسره بعلم اللهِ بأنه سيصير نبيا لم يصل إلى هذا المعنى، لأن علم اللهِ محيطُ بجميع الأشياءِ، ووصف النبيُ صلى اللهُ عليه وسلم بالنبوةِ في ذلكِ الوقتِ أمر ينبغي أن يفهمَ منه أنه أمر ثابت له في ذلكِ الوقتِ، ولهذا رأى آدمُ اسمهَ مكتوباَ على العرشِ: محمدُ رسولُ اللهِ" فلا بد أن يكونَ ذلك معنى ثابت في ذلكِ الوقتِ، وإذا كان المرادُ بذلك مجردَ العلمِ بما سيصير في المستقبلِ لم يكنْ له خصوصية بأنه نبي وآدم بين الروحِ والجسدِ، لأن جميع الأنبياءِ يعلم اللهُ نبوتهمَ في ذلك الوقتِ وقبله، فلا بد من خصوصيةِ للنبي صلى اللهُ عليه وسلم، لأجلها أخبر بهذا الخبرُ إعلاماَ لأمتهِ، ليعرفوا قدرهِ عند اللهُ تعالى فيحصل لهم الخيرِ بذلكِ.
فإن قلتُ أريد أن أعرفَ ذلك القدرِ الزائدِ، فإن النبوةَ وصفُ لا بد أن يكونَ الموصوفُ بها موجوداَ، وإنما يكون بعد الأربعينَ سنة أيضا فكيف يوصفُ به قبل وجودهِ وقبل إرسالهِ، وإن صح ذلك فغيره كذلك؟ قلت: قد جاءَ أن اللهُ خلقَ الأرواحِ قبل الأجسادِ، فقد تكون الإشارةَ بقوله كنت نبياَ إلى روحهِ الشريفةِ، أو إلى حقيقتهِ والحقائق تقصرُ عقولناَ عن معرفتهاَ، وإنما يعلمها خالقها، ومن أمدهُ اللهُ بنور إلهي، ثم إن تلك الحقائقَ يؤتي اللهُ كل حقيقةِ منها ما يشاءُ في الوقتِ الذي يشاء، فحقيقةُ النبيِ صلى اللهُ عليه وسلم قد تكون من قبلِ خلقُ آدمُ، آتاه اللهُ ذلك بأن خلقهاَ متهيئة لذلك، وأفاضَ عليها من ذلكِ الوقتِ فصار نبياَ، وكتبَ اسمهُ على العرشِ، وأخبرَ عنه بالرسالةِ ليعلم ملائكتهُ وغيرهم كرامته عنده، فحقيقته موجودة من ذلكِ الوقتِ وإن تأخرَ جسدهَ الشريفِ المتصفِ بها، واتصافَ حقيقته بالأوصافِ الشريفةِ المفاضةِ من الحضرةِ الإلهيةِ.
وإنما يتأخرُ البعثَ والتبليغَ وكل مالهِ مِنْ جهةِ اللهِ تعالى، ومِنْ جهةِ تأهلُ ذاته الشريفةِ وحقيقتهِ معجل لا تأخير فيه، وكذلك استنباؤهُ، وإيتاؤهٌ الكتابِ والحكمِ والنبوةِ، وإنما المتأخرُ تكونه وتنقله إلى أن ظهرَ صلى اللهً عليه وسلم، وغيره من أهلِ الكرامةِ قد تكون إفاضةُ اللهَ تعالى له تلك الكرامةِ بعد وجودهِ بمدة كما يشاء اللهُ تعالى إلى أن قالَ: فعرفنا بالخبرِ الصحيحِ حصول ذلك الكمالِ من قبل خلقَ آدمُ لنبينا صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه، وأنه أعطاهُ النبوةِ من ذلك الوقتِ ثم أخذ المواثيقَ له على الأنبياءِ، ليعلموا أنه المقدمُ عليهم، وأنه نبيهمُ ورسولهمُ".
أقول وبالله التوفيق
أولا: بنى السبكي كل ما قاله على التقديرِ والاحتمالِ وأطلقَ لخيالهُ العنانِ فأصلُ ثم فرعُ من تلك التقديراتِ والاحتمالاتِ أمورا جعلها من المسلماتِ، والحقائقُ الثابتاتُ الواضحاتُ، ويظهرُ ذلك جليا في قوله:" إنه على تقدير مجيئه صلى الله عليه وسلم في زمانهم، يكون الأمر مرسلا إيهم" وهذا هو الواقعُ الذي هدمَ كل ما بناه السبكي.
ثانيا: استدلَ السبكي بحديثِ:" كنتْ نبياُ وآدمُ بين الروحِ والجسدِ" وكررَ الاستدلالُ بلفظةِ "كنت" في أكثرِ من موضعِ والصوابِ ما في روايةِ ميسرة الفجرِ "كتبت".
ثالثا: وأما الاعتراضُ الذي أوردهُ السبكي على ما قاله:" فإن النبوةَ وصفُ لا بد أن يكونَ الموصوفُ بها موجوداَ... فيقال فيه: لا يشترط للموصوف بالنبوة أن يكونَ مجوداَ قبل زمانِ وجودهِ، لأنه لا يترتب على هذا الوصفُ أحكام ُكما يترتبُ عليها بعد وجودهُ، وأما السبكي فقد ربتَ على هذا الوصفُ أحكاماَ منها: إرسال النبيُ صلى اللهُ عليه وسلم إلى الأنبياءِ وأممهم قبل أن يوجدُ صلى اللهُ عليه وسلم لذا احتاجُ السبكي أن يتكلفَ إيجادُ معنىُ يقبله العقلِ الصحيحِ كيف يكون مرسلاَ إليهم مع تأخرُ وجودهُ صلى اللهُ عليه وسلم عنهم؟
فقالُ مرة:" فقد تكون الإشارةُ بقوله كنت نبياُ إلى روحهِ الشريفةِ" أو "إلى حقيقتهِ صلى اللهُ عليه وسلم والحقائقُ تقصرُ عقولناُ عن معرفتها" استدلُ للأول بحديثِ:" إن اللهَ خلقَ الأرواحَ قبل الأجسادِ..."، وهذا الحديثُ حكمَ عليه ابن حجر الهيتمي بأنه باطل لا أصل له.
وأما الثاني فقد أحال فيه إلى أمرِ تقصرُ العقولُ عن معرفتهِ، وهي الحيدةُ حجة المفاليسَ الذين عجزوا عن الإتيانَ بدليلِ سمعي وعقلي صحيح.
والسبكي مقلدٌ في هذا الفهمُ لشيخه الأكبرِ وكبريته الأحمرِ فيلسوف القومِ ابن عربي الذي أوردَ في فتوحاتهِ المكيةِ.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.