اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من حج حجة الإسلام وزار قبره وغزا غزوة وصلى عليه في بيت المقدس لم يسأله الله تعالى فيما افترض عليه

اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من حج حجة الإسلام وزار قبره وغزا غزوة وصلى عليه في بيت المقدس لم يسأله الله تعالى فيما افترض عليه







الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول رحمة العالمين، ثم أما بعد؛ هذه خطوة أخرى من خطوات عدو الله إبليس حسنها وزينها للقول يدعوهم فيها للتنصل والانسلاخ من دين الله وشرائعه وفرائضه.
فقد أورد السبكي في شفائه من رواية أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي في الثاني من فوائده بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا قال:" من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى علي في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه"[1] مستدلا بذلك على فضل زيارة القبر النبوي الشريف وتعظيمه.
وهذا الحديث موضوع باطل لا شك في بطلانه ويتبين هذا من خلال:
أولًا: سند الحديث: وفيه بدر بن عبد الله المصيصي مجهول الحال.
قال الذهبي الذي لم يذكر في ترجمته إلا سطرا واحدا:" روى خبرا باطلا"[2].
وعلق ابن حجر على قول الذهبي بقوله:" والخبر المذكور أخرجه أبو الفتح الأزدي في الثامن من فوائده، ثم ذكر نص الحديث المستدل به"[3].
وقال عنه ابن عبد الهادي:" لم يعرف بثقة ولا عدالة ولا أمانة"[4].
بل قال السبكي نفسه عنه بعد إيراده للحديث:" ما علمت من حاله شيئا"[5].
وفي السند أيضا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي.
قال فيه الخطيب البغدادي:" في حديثه غرائب ومناكير".
وقال أيضا:" حدثني أبو النجيب الأرموي قال: رأيت أهل الموصل يوهنون أبا الفتح الأزدي جدا ولا يعدونه شيئا".
وقال:" حدثني محمد بن صدقة الموصلي أن أبا الفتح قدم بغداد على الأمير-يعني ابن بويه- فوضع له حديثا:" أن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في صورته قال فأجازه وأعطاه دراهم كثيرة".
وقال أيضا:" سألت أبا بكر البرقاني عن أبي الفتح الأزدي: فأشار إلى أنه كان ضعيفا وقال: رأيته في جامع المدينة وأصحاب الحديث لا يرفعون به رأسا ويتجنبونه"[6].
وقال ابن الجوزي:" كان حافظا ولكن في حديثه مناكير وكانوا يضعفونه"[7].
وذكر تضعيف الأزدي كل من الذهبي[8]، وابن حجر[9]، وابن كثير[10].
وقد ذكره ابن عراق في سلسلته التي ذكرها في أسماء الوضاعين والكذابين ومن كل يسرق الأحاديث ويقلب الأخبار ومن اتهم بالكذب والوضع، وقال عنه:" متهم بالوضع"[11].
الحكم على الحديث:
قال الذهبي إنه:" خبر باطل".
وقال ابن عبد الهادي:" هذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب عند أهل المعرفة بالحديث"[12].
يقول أحمد النجمي:" وعلامات الوضع بادية في قوله:" لم يسأله الله فيما فترض عليه" فإن سؤال العباد في الآخرة عما افترض عليهم ومحاسبتهم على ذلك من الأمور القطعية الثابتة بصريح القرآن وصحيح السنة، قال تعالى وهو أصدق قائل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 92 ) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ففي هذه الآية أخبر الله عز وجل بأن السؤال حاصل لجميع الناس وأكد هذا الخبر بثلاثة مؤكدات هي: القسم واللام والنون التوكيدية قم أكد الضمير "بأجمعين" ليدل على استيعاب السؤال لجميع المكلفين"، وغير ذلك من الآيات، وأما السنة ما رواه أصحاب السنن:" أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كانت اتقص منها شيء قال: انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل له ما ضيع من فريضة من تطوعه، ثم سائر الأعمال تجري على حسب ذلك"[13] واللفظ للنسائي:
ثانيا: المفاسد العظيمة المترتبة على الحديث:
لما سود السبكي بهذا الحديث كتابه لا أدري هل تأمل متن الحديث جيدا وعرف ما يلزم منه من لوازم تنقض عرى الإسلام عروة عروة أم غلب عليه الهوى حتى أصمه وأعمى بصره وبصيرته عن تدبر ما يلزم من ذلك الحديث.
-هل يعتقد السبكي ومن شايعه: أن من حج حجة الإسلام وزار قبره عليه الصلاة والسلام وغزا غزوة وصلى في بيت المقدس جاز له أن يعبد غير الله تعالى؟
وأنه إذا عبد غير الله لا يسأله الله عما افترض عليه من التوحيد محتجا بهذا الحديث، والله سبحانه هو القائل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ}.
-هل يعتقد السبكي ومن شايعه: أن من أتى بتلك الأعمال جاز له ترك الصلاة والزكاة؟
وهما مما افترض على العبد وقد جاء في شأن الصلاة: "إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"[14].
-هل يعتقد السبكي ومن شاعيه: أن من أتى بتلك الأعمال حل له شرب الخمر ونكاح الأمهات والأخوات والبنات؟ لأنه يزعم أن الله لا يسأله عما افترض عليه من اجتناب محارمه مما هو معلوم من الدين بالضرورة، وغير ذلك من اللوازم الفاسدة التي من اعتقدها خرج عن دائرة الإسلام والمسلمين، نعوذ بالله من الخذلان.
أصناف حجاج القبور:
الصنف الأول: قوم يقصدون القبور من أجل قضاء الحاجات، وطلب الدعاء من الأموات، فمنهم من يسأل المقبور شفاء الأسقام، ومنهم من يطلبه رد غائبه، أو إنجاح ولده، ومنهم من يطلب منه إنزال الأمطار والحصول على الذرية وغير ما ذكر، وقد شاهدت بعض ذلك بنفسي بل هو مشاهد في جميع أرجاء العالم الإسلامي ولا ينكر ذلك إلا مكابر.
يقول شيخ الإسلام:" هؤلاء الذين يحجون إلى القبور يقصدون ما يقصده المشركون الذين يقصدون بعبادة المخلوق ما يقصده العابدون لله وحده.
منهم من قصده قضاء حاجته وإجابة سؤاله، يقول:" هؤلاء أقرب إلى الله مني فأنا أتوسل بهم فهم يتوسطون لي في قضاء حاجتي كما يتوسط خواص الملك لمن يكون بعيدا عنهم، وقد ينذر لهم أو يأتي بقربات بلا نذر ويتقربون إليهم بما ينذرونه ويهدونه إلى قبورهم كما يتقرب المسلمون بما يتقربون به إلى الله من الصدقات والضحايا، وكما يهدون إلى مكة أنواع الهدي، ومنهم من يجعل لصاحب القبر نصيبا من ماله أو بعض ماله، أو يجعل ولده كما كان المشركون يفعلون بآلهتهم، ومنهم من يسيب لهم السوائب فلا يذبح ولا يركب ما يسيب لهم من بقر وغيرها كما كان المشركون يسيبون لطواغيتهم، فهذا صنف"[15].
الصنف الثاني: قال رحمه الله:" وصف ثان يحجون إلى قبورهم لما عندهم من المحبة للميت والشوق إليه أو التعظيم والخضوع له، فيجعلون السفر إلى قبره أو إلى صورته الممثلة تقوم مقام السفر إلى نفسه لو كان حيا، ويجدون بذلك أنسا في قلوبهم وطمأنينة وراحة كما يحصل لكثير من المحبين إذا رأى قبر محبوبه، وكما يحصل للقريب أو الصديق إذا رأى قبر قريبه وصديقه، لكن ذلك حب وتعظيم ديني فهو أعظم تأثيرا في النفوس، ولهذا يجد كل قوم عند قبر من يحبونه ويعظمونه ما لا يجدونه عند قبر غيره وإن كان أفضل.
وكثير من أتباع المشايخ الأئمة يجدون عند قبور مشايخهم وأئمتهم ما لا يجدونه عند قبور الأنبياء لا نبينا صلى الله عليه وسلم ولا غيره وذلك، لأن الوجد الذي يجدونه ليس سببه نفس فضيلة المزور بل سببه ما قام بنفوسهم من حبه وتعظيمه وإن كان هو لا يستحق ذلك، إلى أن قال: وكذلك عباد العجل، قال الله تعالى: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أي حب العجل هذا قول الأكثيرن، إلى أن قال: وهذا الجنس من الزيارة ليس مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لا إباحة ولا ندبا ولا استحبه أحد من أئمة الدين بل هم متفقون على النهي عن هذا الجنس كله"[16].
وبهذا يتبين أن قول دحلان:" وأما تخيل المانعين المحرومين من بركاته أن منع التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد وأن التوسل والزيارة مما يؤدي إلى الشر تخيل فاسد باطل"[17] من المكابرة والمعاندة بالباطل، فهو يعلم أنه لا أحد يمنع التوسل الصحيح المشروع ولا الزيارة الخالية من البدع والمخالفات الشريعة وإنما الممنوع بناء العقائد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنامات واستحسانات الرجال و وغير ذلك مما يخالف صريح القرآن وصحيح السنة وإجماع سلف الأمة، وهذا من المحافظة على التوحيد دون شك.
وكلام دحلان هذا مستفاد من كلام سلفه السبكي الذي يقول:" فإن قلت الفرق أيضا أن غيره لا يخشى فيه محذور وقبره صلى الله عليه وسلم يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعبد، قلت: هذا كلام تقشعر منه الجلود ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته فإن فيه تركا لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخيالية وكيف يقدم على تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم : "زوروا القبور"[18]، وعلى ترك قوله:" من زار قبري وجبت له شفاعتي"، وعلى مخالفة إجماع السلف[19] والخلف بمثل هذا الخيال الذي لا يشهد به كتاب ولا سنة، إلى قوله وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم"[20].
وقد أجاب عن ذلك ابن عبد الهادي بكلام رصين كشف به تلاعب المتلاعبين قال:" والجواب أن يقال لا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس والتمويه والغلو والتخليط والقول بغير علم والمناقشة على جميع ذلك تفضي إلى التطويل ولكن التنبيه على البعض كاف لمن وفقه الله، قوله:" فإن قلت الفرق أيضا أن غيره لا يخشى فيه محذور إلخ".
سؤال لا تخفى صحته وقوته على أهل العلم والإيمان، وقوله في جوابه :"هذا كلام تقشعر منه الجلود...إلخ"، فيقال نعم تقشعر منه جلود عباد القبور إذا دعوا إلى عبادة الله وحده وأن لا يشرك به ول يتخذ من دونه وثن يعبد اشمأزت قلوبهم واقشعرت جلودهم واكفهرت وجوههم ولا يخفى أن هذا نوع مشابهة للذين قال الله فيهم: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ثم يقال: أما جلود أهل التوحيد المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم العالمين بمقاصده الموافقين له فيما أحبه ورغب فيه وكرهه وحذر منه فإنها لا تقشعر من هذا الفرق بل تزيد قلوبهم وجلودهم طمأنينة وسكينة وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فلا تزيدهم قواعد التوحيد وأدلته وحقائقه وأسراره إلا رجسا إلى رجسهم، وإذا سلك التوحيد في قلوبهم دفعته قلوبهم وأنكرته ظنا منهم أنه تنقص وهضم للأكابر وإزراء بهم وحط لهم عن مراتبهم وأتباع هؤلاء ضعفاء العقول وهم أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، وأما أهل العلم والإيمان فإنما تقشعر جلودهم من مخالفة الرسول فيما أمر ومن ترك قبول قوله فيما أخبر من قول القائل وإقراره بأن اليقين لا يستفاد بقوله صلى الله عليه وسلم وأنه يجب تقديم عقول الرجال وآرائهم على قوله صلى الله عليه وسلم إذا خالفهم وأنه يجب أن يشرع الحج إلى قبره ويجعل من أعظم الأعياد ويحتج بفعل العوام والطغام على أن هذا من دينه صلى الله عليه وسلم، ويقدم هديهم على هدى المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ويستحل تكفير من نهى عن أسباب الشرك والبدع ودعا إلى ما كان عليه خيار الأمة وسادتها ويستحل عقوبته وينسب إلى التنقص والإزراء، فهذا وأمثاله تقشعر منه جلود أهل العلم والإيمان"[21].
إلى قوله:" وقوله إن المبالغة في تعظيمه واجبة" أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه عل أحد تعظيما حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كروب المكروبين وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء؟
فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين، أم يريد بها التعظيم الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب محبته وطاعته ومعرفة حقوقه وتصديق أخباره لا يتم الإيمان إلا به ولكن هذا المعترض وأضرابه عن ذلك بمعزل"[22].
والمباحث التالية تبين لنا ما الذي فهمه الغلاة من تعظيم الرسول عليه أفضل والصلاة والسلام.
 

الهوامش:
[1] شفاء السقام (34).
[2] ميزان الاعتدال (2/4).
[3] لسان الميزان (2/4).
[4] الصارم المنكي (224).
[5] شفاء السقام (34).
[6] انظر: الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد (2/244).
[7] ابن الجوزي: الضعفاء والمتروكين (3/53).
[8] ميزان الاعتدال (3/523).
[9] لسان الميزان (11/139).
[10] البداية والنهاية (11/323).
[11] ابن عراق: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة (1/103).
[12] الصارم المكني (222).
[13] رواه الترمذي في جامعه (2/269)، (413)، وابن ماجه في سننه (1/458)، (1425)، وصحيح ابن ماجه للألباني (1/240).
[14] رواه ابن ماجه في سننه (1/342) (1079)، وانظر صحيح ابن ماجه (1/177).
[15] الرد على الأخنائي (90-91).
[16] المرجع نفسه (91-94)، باختصار.
[17] الدرر السنية (18).
[18] هذا الحديث لا دليل له فيما ذهب إليه وإنما يدل على الزيارة المشروعة لا الممنوعة.
[19] أما السلف فإجماعهم على الزيارة الشرعية لا البدعية وأما الخلف فإن خالف إجماعهم السلف فلا يلتفت إليهم.
[20] شفاء السقام (85-86).
[21] انظر: الصارم المنكي (457-459) (مختصرا).
[22] المرجع السابق (464).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من حج حجة الإسلام وزار قبره وغزا غزوة وصلى عليه في بيت المقدس لم يسأله الله تعالى فيما افترض عليه doc
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من حج حجة الإسلام وزار قبره وغزا غزوة وصلى عليه في بيت المقدس لم يسأله الله تعالى فيما افترض عليه pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى