الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ فلليقين آثار كثيرةٌ وثمرات عظيمة في حياة العبد ومن تلك الآثار ما يلي:
(1)- اليقين من أعظم أسباب حياة القلب وطمأنينته وقوته ونشاطه وسائر لوازم الحياة، فاليقين يزيل الريبَ والشك والسخط، ويملأ القلب نورًا وإشراقًا ورجاءً وخوفًا من الله ومحبة له، ورضى بما قدَّر، وهو من أسباب زيادة أعمال القلوب؛ كالتوكل والإنابة والخوف والخشية وإحسان الظن بالله تعالى، ولابد لليقين من علمٍ صحيح يوصل بالخوف والرجاء، فهما يدفعان إلى العمل بتحري الاتباع والإخلاص([1]).
وتأمل حالَ خليل الرحمن إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام عندما سأل ربَّه قائلًا كما أخبر الله تعالى عنه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، فإبراهيم عليه السلام بسؤاله هذا (أحبَّ أن يترقى من علمِ اليقينِ بذلك إلى عينِ اليقينِ، وأن يرى ذلك مشاهدةً)([2])، فقال الله تعالى له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} فأجاب إبراهيم عليه السلام بقوله: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، فرضي الله من إبراهيمَ قوله: {بَلَى}، وعلم سبحانه من حال هذا الرسول الكريم أنه يريد زيادةَ الاطمئنانِ واليقينِ، وإزالةَ ما قد يعترضُ في النفوسِ ويوسوس به الشيطان([3])، فازداد إبراهيمُ عليه السلام باليقين إيمانًا وقوة حجة وبرهان.
(2)- اليقين من أعظم أسباب قوة الإيمان وزيادته، وبه تُنال الإمامة في الدين؛ يقول ابن القيم: (سمعتُ شيخَ الإسلام ابن تيمية يقول: بالصبرِ واليقينِ تُنالُ الإمامةُ في الدينِ، ثم تلا قولَه تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]([4]).
كما أن من ثمراته العظيمة قوة التوكل على الله - كما أشرتُ في الثمرة الأولى -، هذا العمل القلبي العظيم، فكلما ازداد اليقينُ في نفس العبد قوي توكله؛ قال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، والحق هنا هو اليقين كما ذكر ابنُ القيم - رحمه الله -([5]).
(3)- اليقين سبب لتوفيق الله لعبده للجواب الصحيح حين سؤال الملكين في القبر - نسأل اللهَ الثبات على الحق -، كما أن اليقين سببٌ لدخول الجنة: فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((... ما منْ شيءٍ لم أكنْ أريتُه إلا رأيتُه في مقامِي هذا حتى الجنةَ والنارَ، فأوحيَ إليَّ أنكم تُفتنون في قبورِكم مثلَ أو قريبًا من فتنةِ المسيحِ الدجالِ.
يُقال: ما علمُك بهذا الرجلِ؟ فأما المؤمنُ أو الموقنُ فيقول: هو محمدٌ رسولُ اللهِ، جاءنا بالبيناتِ والهدى فأجبْنَا واتَّبَعْنَا، هو محمدٌ ثلاثًا، فيُقال نَم صالحًا قدْ عَلِمْنَا إن كنتَ لموقنًا به، وأما المنافقُ أو المرتابُ فيقول: لا أدري سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقلتُه))([6]).
ويشهد لذلك الحديثُ السابق ذكره وهو قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: ((فمن لقيتَ من وراءِ هذا الحائط يشهدُ أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبُه، فبشِّرْه بالجنةِ))([7])، وكذلك جاء في سيد الاستغفار قوله صلى الله عليه وسلم: ((منْ قالها من النهارِ موقنًا بها فماتَ منْ يومِه قبلَ أن يمسي فهو منْ أهلِ الجنةِ، ومنْ قالَها من الليلِ وهو موقنٌ بها فماتَ قبلَ أنْ يصبحَ؛ فهو من أهلِ الجنة))([8]).
(4)- اليقين من أعظم الأسباب المعينة على العبادات والقيام بالمشروعات والإقدام على الأمر بالمعروف وإنكار المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى؛ وذلك أن اليقين يمنع ورود الشهوات والشبهات على القلوب، ويدفع عن النفس ما قد تجده من ثقل أو صعوبة في بعض العبادات؛ يقول ابن القيم: (والقلبُ متى استيقنَ ما أمامَه من كرامةِ اللهِ وما أعدَّ لأوليائِه؛ زالت عنه الوحشةُ التي يجدُها المتخلفون، ولانَ له ما استوعرَه المُترفون)([9]).
ويقول الحسن البصري: (ما طُلِبَتْ الجنةُ إلا باليقينِ، ولا هُرِبَ من النارِ إلا باليقينِ، ولا صُبِرَ على الحقِّ إلا باليقينِ)([10])، ويقول سفيان الثوري: (لو أن اليقينَ وقعَ في القلبِ كما ينبغي لطارت القلوبُ اشتياقًا إلى الجنةِ وخوفًا من النارِ)([11]).
(5)- اليقين من أسباب انشراح الصدر وسلامة النفس من الخوف والقلق والتردد، فاليقين يُعين على الصبر والاحتساب والرضا بالقضاء والقدر، ويدفع عن القلب الوساوس والخواطر السيئة؛ قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].
فاليقين - كما يقول ابن القيم - من أفضل مواهب الربِّ لعبده؛ إذ لا تثبتْ قدمُ الرضا إلا على درجةِ اليقين، يقول ابن مسعود في تفسير الآية السابقة: (هو العبدُ تصيبُه المصيبةُ فيعلم أنها من اللهِ فيرضى ويسلم)، يقول ابن القيم: فهذا لم يحصلْ له هدايةُ القلبِ والرضا والتسليمُ إلا بيقينِه([12]).
ويقول ابن رجب: (فمن حقَّقَ اليقينَ وثقَ باللهِ في أمورِه كلِّها، ورضيَ بتدبيرِه له، وانقطعَ عن التعلقِ بالمخلوقين رجاءً وخوفًا، ومنعه ذلك من طلبِ الدنيا بالأسبابِ المكروهةِ)([13]).
وتأمل قصة مسارعة أبي بكر الصديق إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج، فإن فيها من العبر اليقينية الشيء العظيم؛ فإنه (لما أُسْري بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجدِ الأقصى أصبحَ يتحدثُ الناسُ بذلك، فارْتَدَّ ناسُ ممن كانوا آمنوا به وصدَّقُوه؛ وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه.
فقالوا: هل لك إلى صاحبِك يزعمُ أنه أُسري به الليلةَ إلى بيتِ المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نَعم، قال: لَئِنْ كانَ قالَ ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقُه أنه ذهبَ الليلةَ إلى بيتِ المقدس وجاءَ قبلَ أن يُصْبِحَ؟! قال: نَعم؛ إني لأصدقُه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقُه بخبرِ السماءِ في غدوةٍ أو روحةٍ؛ فلذلك سُمي أبو بكر: الصدِّيق)([14]).
هذه بعض الثمرات والآثار الحسنة على من تحلَّى بقوة اليقين، واعتنى بترقيته ومداومة مراجعته في نفسه، إنها ثمراتٌ عظيمة فلا تفوتك أخي المسلم، فالوصول إليها سهل ميسور لمن علم اللهُ منه صدق الإخلاص والمتابعة وتحري الحق.
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.