الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أم بعد؛ فإن لليقين مراتب؛ منها: العلم، وحسن التوكل، والرضا والتسليم، وعدم تعلق القلب بغير الله، وأن يكون أوثق بما في يد الله تعالى عما هو في يده.
كان أبو مسلم الخولاني - رحمه الله - يحبُّ التصدق والإيثار على نفسه، وكان يتصدق بِقُوتِه ويبيت طاويًا، فأصبح يومًا وليس في بيته غير درهم واحد، فقالت له زوجته: (خذ هذا الدرهم واشترِ به دقيقًا نعجنُ بعضَه ونطبخُ بعضَه للأولاد، فإنهم لا يصبرون على ألمِ الجوعِ)، فأخذ الدرهم والمزود وخرج إلى السوق، وكان الجو شديد البرودة، فصادفه سائلٌ فتحوَّل عنه، فلحقه وألحَّ عليه وأقسم عليه، فدفع له الدرهم وبقي في همٍّ وكربٍ.
وفكَّر كيف يعود إلى الأولاد والزوجة بغير شيئ، فمرَّ بسوقِ البلاط وهم ينشرونه ففتح المزود وملأه من النشارة وربطه وأتى به إلى البيت، فوضعه فيه على غفلة من زوجته ثم خرج إلى المسجد، فعمدت زوجته إلى المزود ففتحته فإذا فيه دقيق أبيض، فعجنت منه وطبخت للأولاد فأكلوا وشبعوا ولعبوا.
فلما ارتفع النهارُ جاء أبو مسلم وهو على خوف من امرأته، فلما جلس أتته بالمائدة والطعام فأكل، فلما فرغ قال: (من أين لكم هذا)؟ قالت: (من المزود الذي جئتَ به أمس)، فتعجب من ذلك وشكر اللهَ على لطفه وكرمه([1]).
لليقين ثلاث مراتب؛ هي:
المرتبة الأولى: علم اليقين، وهي انكشاف المعلوم للقلب، بحيث يشاهده ولا يشك فيه، كانكشاف المرئي للبصر.
المرتبة الثانية: عين اليقين، أي مشاهدة المعلوم بالأبصار.
المرتبة الثالثة: حق اليقين، وهي أعلى درجات اليقين، وهي مباشرة المعلوم وإدراكه الإدراك التام.
فالأولى: كعلمك بأن في هذا الوادي ماءً، والثانية: كرؤيته، والثالثة: كالشرب منه([2]).
ومثالٌ آخر: إيماننا الجازم بالجنةِ والنارِ هذا علمُ اليقينِ؛ فإذا أُزلفت الجنةُ يومَ القيامة للمتقين، وشاهدها الخلائقُ، وبُرِّزَت الجحيم للغاوين، ورآها الخلائقُ، فذلك عينُ اليقين، فإذا أُدْخِلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ، فذلك حينئذٍ حقُّ اليقين([3]).
قال تعالى في سورة التكاثر: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5-7]، أي ترونها معاينة بالأبصار موقنين حقيقتها، ثم قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]؛ أي لتسألن يوم القيامة عن نعيم الدنيا من صحة الأبدان والأسماع والأبصار والمكاسب وملاذِّ المآكل والمشارب وغير ذلك، هل أديتم شكرَها على الوجه المشروع؟ أم كفرتم بها؟([4]).
ومما ينبغي أن يُعلم أن اليقين يقوى ويضعف ويزداد وينقص، فهو درجاتٌ متفاوتة؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (للمؤمنين العارفين باللهِ المحبين له من مقامات القربِ ومنازل اليقينِ ما لا تكاد تحيطُ به العبارةُ، ولا يعرفُه حقَّ المعرفةِ إلا من أدركَه ونالَه)([5])، وقال عن اليقين في موضعٍ آخر: (له درجاتٌ متفاوتة)([6])، وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (اليقينُ يضعفُ ويقوى)([7]).
والصبر على المصائب من مقامات اليقين، فأحسنُ الناسِ صبرًا عند المصائب أكثرُهم يقينًا، وأكثرُ الناس جزعًا وسخطًا في المصائب أقلُّهم يقينًا، فشدة الغمِّ على فوت الدنيا دليلٌ على حبِّها، وعلامةُ ضعف اليقين بمحبوبه، وسهولة الغمِّ على فوتها دليلٌ على الزهدِ فيها وقوة اليقين بربِّه.
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.