منزلة اليقين بالله

منزلة اليقين بالله






الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ اليقين بالله هو أعظم زاد للسائر إلى الله عز وجل، فهو المُثبت على صراط الله حتى يلقى العبدُ ربَّه، فإذا ادلهمت الخطوبُ، واحلولك الظلامُ، وعبست في وجهك الأيامُ، تصدى لذلك اليقينُ بالله، فصار الحزنُ فرحًا، والضيقُ سعة، والعسرُ يسرًا، فَأَعْظِمْ باليقينِ للمؤمن من دواء، وأَنْعِمْ به من شفاء.
وهو خصلةٌ من خصال المؤمنين، وخُلة لعباد الله المحسنين، خُلة قامت لها السماوات والأرض، وشهدت بها سماوات الله وأرضه، ألا وهي "اليقين بالله"، فكل ما في هذا الكون ليله ونهاره، صباحه ومساؤه، يُذَكِّرُكَ فيقول لك بلسان الحال والمقال: "لا إله إلا الله".
ما أظلم الليلُ إلا وذكَّرك بمن أَظْلَمَه، ولا أضاء النهارُ إلا وذَكَّرَك بمن أضاءه، ولا جاءت ظُلمة الليل تغطي ضياء الشمس، وتلألأت - في ظلامه - كواكبُه إلا قالت بلسان الحال والمقال: "لا إله إلا الله".
يُقْبِلُ الليلُ على النهارِ فلا يختلط الليلُ بالنهار، ولا يختلط منه عشيٌّ بإبكار، تبارك الله الواحد القهار، كل ما في هذا الكون يقودك إلى اليقين، حتى تتعلق بإله الأولين والآخرين، وصدق الله عز وجل إذ يقول في كتابه المبين: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20].
إن اليقين والرضا بقضاء الله وقدره من أعظم الأسباب المعينة على الثبات؛ ذلك أن اليقين هو جوهر الإيمان، فاليقين روح أعمال القلوب، التي هي روح أعمال الجوارح، ومتى وصل اليقينُ إلى القلب امتلأ نورًا وإشراقًا، وانتفى عنه كل ريب وشك، وكل سخط وحيرة، وكل همٍّ وغمٍّ.
وإذا وصل اليقينُ إلى القلب امتلأ بمحبة الله، والخوف منه، والرضا به، والشكر له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والتوجه إليه، والأنس به، وعدم الالتفات إلى غيره، واليقين لا يساكن قلبًا فيه سكونٌ لغير الله؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
اليقين شعبٌة من شعب الإيمان، بل هو من أعلى درجات أعمال القلوب؛ إذ هو العلم الجازم بإيمان وطمأنينة نفسٍ بما جاء عن الله تعالى يقينًا، يدفع صاحبه إلى اتباع الشرع الحنيف؛ يقول ابن القيم: (وهو من الإيمانِ بمنزلةِ الروحِ من الجسدِ، وبه تفاضلَ العارفون، وفيه تنافسَ المتنافسون، وإليه شمَّر العاملون ...
وخصَّ سبحانه أهلَ اليقينِ بالانتفاعِ بالآيات والبراهين؛ فقال وهو أصدق القائلين: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20]، وخصَّ أهلَ اليقينِ بالهدى والفلاحِ من بين العاملين؛ فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 4-5]، فاليقينُ روحُ أعمالِ القلوبِ، التي هي روحُ أعمالِ الجوارحِ، وهو حقيقةُ الصدِّيقية)([1]).
ولهذا ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (اليقينُ هو الإيمانُ كلُّه)([2])، ومراده رضي الله عنه بيان عظم هذه الشعبة وأنها من أعلى درجات الإيمان، وليس مقصوده أن الإيمان هو هذه الشعبة أو الدرجة؛ إذ أن اليقين جزءٌ عظيم من حقيقة الإيمان وليس هي فقط الإيمان، بل الإيمان اعتقادٌ وقولٌ وعملٌ، يقول ابن القيم: (فالإيمانُ قلبُ الإسلامِ ولبُّه، واليقينُ قلبُ الإيمانِ ولبُّه)([3]).
ولِعِظَمِ منزلة اليقين أثنى اللهُ على المتصفين به؛ في مثل قوله تعال: {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]، وقوله: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 3] ... وغيرها من الآيات.
كذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امتدح أهلَ اليقين وحث عليه وأمر بطلبه؛ إذ هو من أسباب الصلاح ودخول الجنة؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: ((فمنْ لَقِيتَ من وراء هذا الحائط يشهدُ أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبُه فبَشِّرْه بالجنةِ))([4])، وقال صلى الله عليه وسلم: ((صلاحُ أولِ هذه الأمةِ بالزهدِ واليقين، ويهلكُ آخرُها بالبخلِ والأملِ))([5])، وقال أيضًا: ((... وسَلوا اللهَ اليقينَ والمعافاةَ؛ فإنه لم يُؤْتَ أحدٌ بعدَ اليقينِ خيرًا من المعافاةِ))([6]).
وفي المقابل وصفَ اللهُ تعالى الكفارَ والمنافقين بنقيض اليقين؛ إذ وصفهم بالشك والريب والتردد، قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت: 45]، وقال سبحانه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 14]، وقال في المنافقين: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45].
ومما يدل على المنزلة العظيمة لليقين أن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يزيد إبراهيمَ عليه السلام إيمانًا مع قوة إيمانه - فهو أبو الأنبياء عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة والسلام - رفعه ورقَّاه إلى درجة اليقين، فأراه ملكوتَ السماوات والأرض ليصل إلى تلك المنزلة الرفيعة، إذ أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].


الهوامش:
([1]) مدارج السالكين، ابن القيم، (2/413-414).
([2]) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في كتاب الإيمان، (1/19).
([3]) الفوائد، ابن القيم، ص(162).
([4]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، (52).
([5]) رواه أحمد في الزهد، ص(25)، رقم: (51)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، (3845)، وفي مشكاة المصابيح، (5281)، وقال: أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان.
([6]) رواه البخاري في الأدب المفرد، باب من سأل اللهَ العافية، (724)، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، (3849)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، (724)، وصحيح سنن ابن ماجه، (3104).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
منزلة اليقين بالله doc
منزلة اليقين بالله pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى