بيَّن لنا ابن تيمية - رحمه الله - الأسباب التي بها يحصلُ اليقين في الدين، وهي مستنبطة من الكتاب والسنة، فقال - رحمه الله -: (وأما كيفَ يحصلُ اليقينُ؟ فبثلاثةِ أشياء؛ أحدهما: تدبرُ القرآنِ، والثاني: تدبرُ الآيات التي يُحْدِثُها اللهُ في الأنفسِ والآفاقِ، التي تبينُ أنه حق، والثالثُ: العملُ بموجبِ العلمِ).
ثم بيَّن أن اليقين يحصل بالقرآنِ: لأن الله قد بيَّن فيه كل ما يُحتاج إليه في أصول الدين، فقرر التوحيدَ والنبوةَ والمعادَ بالبراهين التي لا ينتهي إلى تحقيقِها نظرٌ، وأما الآيات: فإن منها ما هو ماثلٌ للعيان، ومنها ما يُعلم بالتواتر من عقوبات مكذبي الرسل ومن عصاهم، ومن نَصْرِ الرسلِ وأتباعهم، وما عُلم من إكرامِ الله لأهل طاعته، وانتقامه من أهل معصيته، وكل ذلك فيه عبرة تبين أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وغير ذلك مما يوافق القرآن، ويورث اليقين في القلب بأنه حقٌّ لا ريب فيه.
وأما العمل فقد بيَّن أن العمل بموجب العلم يثبته ويقرره، ومخالفته تضعفه بل قد تذهبه؛ كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]([1]).
فأما ما يتعلق بالأمر الأول الذي يحصل به اليقين؛ وهو تدبر القرآن: فقد ذكرَه اللهُ تعالى في قوله: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]، أي إن هذا القرآن الكريم والذكر الحكيم يحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس، فيحصل به الانتفاع للمؤمنين والهدى والرحمة، وبه يتهدون إلى الصراطِ المستقيم في أصولِ الدين وفروعه، وبه يحصلُ الخيرُ والسرورُ والسعادة في الدنيا والآخرةِ، وهي رحمةٌ تزكو بها نفوسهم وتزدادٌ بها عقولُهم، ويزيدُ بها إيمانُهم ويقينهم وتقومُ بها الحجة على من أصرَّ وعاند([2]).
ونظير هذا قوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 1-3].
كما أن سبب عدم هداية من ضلَّ عن الصراط المستقيم هو تركهم لتدبر القرآن واستكبارهم عن سماعه؛ قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 66-68].
أما ما يتعلق بالأمر الثاني الذي يحصل به اليقين؛ وهو تدبر الآيات التي يُحْدِثُها الله في الأنفس والآفاق التي تبين أنه حق، فقد ذكره الله تعالى في عدة آيات؛ منها قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]، وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20-21]، وقال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 4].
ففي هذه الآيات إخبارٌ من اللهِ عز وجل أنه سيُري هؤلاء الكفار من الآيات المشهودةِ في الآفاقِ وفي أنفسِهم ليبينَ لهم الآيات المسموعة التي هي حقٌّ لا ريبَ فيها، فكلُّ ما جاء في هذا الكتاب العزيز تصدِّقُه الوقائعُ التي يرونها ماثلةً أمام أعينهم، بل لو عادوا إلى أنفسِهم لرأوا فيها عجيب الصنعة ودقته ما يبعد أن يكون ذلك سدى، وأن يكونَ الغايةُ منه مجرد هذه الحياةِ الدنيا الفانية، وكل هذا مما يزيدُ العبدَ يقينًا وثباتًا في القلبِ([3]).
أما ما يتعلق بالأمر الثالث الذي يحصل به اليقين؛ وهو العمل بموجب العلم: فقد ذكره الله أيضًا في عدة آيات؛ منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15-16].
ففي هذه الآيات، أن كلَّ عملٍ يقومُ به المسلمُ مما شرعه اللهُ تعالى ويخلص نيتَه فيه يزيد إيمانَه، لأن الإيمان يزيدُ بزيادةِ الطاعات وكثرةِ العبادات([4]).
فالخلاصة: أن اليقين يحصل بعدة أسباب، من أهمهما ما ذكره شيخُ الإسلام من تدبر كتاب الله عز وجل، وما اشتمل عليه من المعاني العظيمة والأخبار الصادقة والأحكام الحسنة، ثم النظر والتفكر في آيات الله التي يبثها في الكون، ثم إذا انضم إلى ذلك الفهمَ العملُ التطبيقي؛ فلاشك أنه يورث في القلب من الثبات والقرار ما لا يحصل بغيره.
المراجع:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.