تدبر كتاب الله تعالى يصل بالعبد إلى اليقين

تدبر كتاب الله تعالى يصل بالعبد إلى اليقين





بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ قال السعدي: (ومن فوائد التدبرِ لكتابِ اللهِ: أنه بذلك يصلُ العبدُ إلى درجةِ اليقينِ والعلمِ بأنه كلامُ اللهِ؛ لأنه يراه يصدقُ بعضُه بعضًا، ويوافقُ بعضُه بعضًا، فترى الحكمَ والقصةَ والإخبارات تُعادُ في القرآنِ في عدة مواضع، كلها متوافقةٌ متصادقةٌ، لا ينقضُ بعضُها بعضًا، فبذلك يُعلمُ كمال القرآنِ، وأنه من عند من أحاطَ علمُه بجميعِ الأمور؛ فلذلك قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، أي: فلما كان من عندِ اللهِ لم يكنٍ فيه اختلافٌ أصلًا)([1]).
إن قوة اليقين علامةٌ على زيادة الإيمان، وضعف اليقين علامةٌ على ضعف الإيمان؛ قال الطاهر بن عاشور: (وَمَعْنَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: قُوَّةُ الْيَقِينِ فِي نَفْسِ الْمُوقِنِ عَلَى حَسَبِ شِدَّةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اسْتِحْضَارِ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِهِ، وَعَنْ إِعَادَةِ النَّظَرِ فِيهَا، وَدَفْعِ الشَّكِّ الْعَارِضِ لِلنَّفْسِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْأَدِلَّةُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى وَأَجْلَى مُقَدِّمَاتٍ كَانَ الْيَقِينُ أَقْوَى)([2]).
سُئِلَ شيخ الاسلام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية - رَحمَه الله - عَن قَوْله تَعَالَى: {حق الْيَقِين} و{عين الْيَقِين} و{علم الْيَقِين}؛ فَمَا معنى كل مقَام مِنْهَا؟ وَأي مقَام أَعلَى؟
فَأجَاب: (الْحَمد للهِ رب الْعَالمين، للنَّاس فِي هَذِه الْأَسْمَاء مقالات مَعْرُوفَة؛ مِنْهَا أَن يُقَال "علم الْيَقِين": مَا علمه بِالسَّمَاعِ وَالْخَبَر وَالْقِيَاس وَالنَّظَر، وَ"عين الْيَقِين": مَا شَاهده وعاينه بالبصر، وَ"حقّ الْيَقِين": مَا بَاشرهُ ووجده وذاقه وعرفه بِالِاعْتِبَارِ.
فَالْأولى: مثل من أخبر أَن هُنَاكَ عسلًا وَصدق الْمُخْبِر، أَو رأى آثَار الْعَسَل فاستدل على وجوده، وَالثَّانِي: مثل من رأى الْعَسَل وَشَاهده وعاينه وَهَذَا أَعلَى؛ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ الْمُخْبَر كالمعاين))([3])، وَالثَّالِث: مثل من ذاق الْعَسَل وَوجد طعمه وحلاوته وَمَعْلُوم أَن هَذَا أَعلَى مِمَّا قبله)([4]).
وقال الشنقيطي: (مراتب العلمِ الثلاث: علمُ اليقين، وعينُ اليقين، وحقُّ اليقين؛ فـ"العلم": ما كان عن دلائل، و"عين اليقين": ما كان عن مشاهدة، و"حق اليقين": ما كان عن ملابسةٍ ومخالطةٍ، كما يحصلُ العلمُ بالكعبة وجهتُها فهو علمُ اليقين، فإذا رآها فهو عينُ اليقينِ بوجودها، فإذا دخلَها وكان في جوفِها فهو حقُّ اليقينِ بوجودِها)([5]).
إن قوام العبادة إنما يعتمد على اليقين، ولا تصح العبادة بدونه، وهو أمر يتطلب من العبد الصبر والعزم، وبدون اليقين لا يكون عند المرء إلا الوهم والتيه؛ قال الإمام ابن تيمية: (الْيَقِين الَّذِي هُوَ صفة العَبْد فَذَاك قد فعله من حِين عَبَدَ ربَّه، وَلَا تصحُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا بِهِ، وَإِن كَانَ لَهُ دَرَجَات مُتَفَاوِتَة)([6]).
وقال أيضًا: (فَلَابُد من الصَّبْرِ على فعلِ الْحسنِ الْمَأْمُورِ وَتركِ السيءِ الْمَحْظُورِ، وَيدخل فِي ذَلِك الصَّبْر على الأذى وعَلى مَا يُقَال، وَالصَّبْر على مَا يُصِيبهُ من المكاره، وَالصَّبْر عَن البطر عِنْد النعم، وَغير ذَلِك من أنواع الصَّبْر، وَلَا يُمْكِن للعَبْدِ أن يصبر إن لم يكن لَهُ مَا يطمئن لَهُ ويتنعم بِهِ ويغتذي بِهِ وَهُوَ الْيَقِين)([7]).
وقال ابن تيمية: (اليقينُ يتضمنُ اليقينَ في القيامِ بأمرِ اللهِ، وما وعدَ اللهُ أهلَ طاعتِه، ويتضمنُ اليقينَ بقدرِ اللهِ وخلقِه وتدبيرِه)([8]).
وقال سيد قطب: (والعبادةُ تقومُ على اليقينِ، لا على الوهمِ المزعزعِ، الذي لا يستندُ إلى دليلٍ!! وهذا هو التيه الذي يخبطُ فيه من لا يدينون بعقيدةِ التوحيدِ الناصعةِ الواضحةِ المستقيمةِ في العقلِ والضميرِ)([9]).
اليقين يؤدي بالعبد إلى أن يطمئن قلبه، والعبد إذا اطمئن قلبُه كان ثابت الجنان غير مزعزع الإيمان؛ قال ابن تيمية: (وأما اليقينُ فهو: طمأنينةُ القلبِ، واستقرارُ العلمِ فيه، وهو معنى ما يقولون: "ماءٌ يقِن" إذا استقرَّ عن الحركةِ، وضدُّ اليقينِ الريبُ، وهو نوعٌ من الحركةِ والاضطرابِ، يُقال: "رابني يريبني"، ومنه في الحديث: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف فقال: لا يريبه أحدٌ)).
ثم اليقينُ ينتظمُ منه أمران: علمُ القلبِ، وعملُ القلبِ، فإن العبدَ قد يعلمُ علمًا جازمًا بأمرٍ؛ ومع هذا فيكون في قلبِه حركةٌ واختلاجٌ من العملِ الذي يقتضيه ذلك العلمُن كعلمِ العبدِ أن اللهَ رب كلِّ شيءٍ ومليكه؛ ولا خالقَ غيرُه؛ وأنه ما شاءَ كان وما لم يشأ لم يكنْ، فهذا قد تصحبُه الطمأنينةُ إلى اللهِ والتوكل عليه وقد لا يصحبه العملُ بذلك؛ إما لغفلةِ القلبِ عن هذا العلمِ.
والغفلةُ هي ضُّ العلمِ التامِّ، وإن لم تكنٍ ضدًّا لأصلِ العلمِ، وإما للخواطر التي تسنحُ في القلبِ من الالتفاتِ إلى الأسبابِ، وإما لغير ذلك)([10])، وقال أيضًا: (فأهلُ اليقينِ إذا ابتُلوا ثبتوا؛ بخلافِ غيرهم، فإن الابتلاءَ قد يُذْهِب إيمانَه أو ينقصه)([11]).
وقال الإمامُ ابن القيم: (إن الريبَ ضد الطمأنينةِ واليقينِ، فهو قلقٌ واضطرابٌ وانزعاجٌ، كما أن اليقينَ والطمأنينةَ ثباتٌ واستقرارٌ)([12])، وقال أيضًا: (الْيَقِينُ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْجَازِمُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا ريبَ فِيهِ وَلَا ترددَ وَلَا شكَّ وَلَا شُبْهَةَ بِخَمْسَة أصُول ذكرَهَا سُبْحَانَهُ فِي قَوْله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وَفِي قَوْله: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136]، وَفِي قَوْله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر دَاخلٌ فِي الْإِيمَانِ بالكتبِ وَالرسلِ، وَجمَعَ بَينهمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث عمر فِي قَوْله: ((الْإِيمَانُ أَن تؤمنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكتبِه وَرُسُلِه وَالْيَوْمِ الآخِر))، فَهَذِهِ الْأُصُول الْخمس من لم يُؤمنْ بهَا فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَالْيَقِينُ أَن يقومَ الْإِيمَانُ بهَا حَتَّى تصيرَ كَأَنَّهَا مُعَاينَة للقلبِ مُشَاهدَة لَهُ، نسبتها إِلَى البصيرةِ كنسبةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِلَى الْبَصَرِ، وَلِهَذَا قَالَ من قَالَ من السَّلف: الْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّه)([13]).
بدون اليقين لا يكون عند العبد إيمان، فهو روح الإيمان وروح الأعمال، قال الإمام ابن القيم: (الْيَقِينِ وَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَبِهِ تَفَاضَلَ الْعَارِفُونَ، وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَإِلَيْهِ شَمَّرَ الْعَامِلُونَ، وَعَمَلُ الْقَوْمِ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَإِشَارَاتُهُمْ كُلُّهَا إِلَيْهِ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الصَّبْرُ بِالْيَقِينِ وُلِدَ بَيْنَهُمَا حُصُولُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ)([14]).
وقال الإمام ابن القيم: (فَالْيَقِينُ رُوحُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ أَرْوَاحُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَهُوَ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ)([15])، وقال أيضُا: (لَا يَتِمُّ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ إِلَّا بِالْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ، فَالْيَقِينُ يَدْفَعُ عَنْهُ عقوبات الآخرة، والآخرة تَدْفَعُ عَنْهُ أَمْرَاضَ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ)([16]).
وقال السَّرِيَّ: (تَدْرُونَ مَا الْيَقِينُ؟ هُوَ سُكُونُ الْقَلْبِ عِنْدَ الْعَمَلِ بِمَا صَدَّقَ بِهِ الْقَلْبُ، فَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ لَيْسَ فِيهِ تَخْوِيفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَخَوُّفٌ، فَالْقَلْبُ سَاكِنٌ آمِنٌ لَيْسَ يَخَافُ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، فَإِذَا هَمَّ الْقَلْبُ بِبَابٍ مِنَ الْخَيْرِ لَمْ يَخْطُرْ بِقَلْبِهِ قَاطِعٌ يَمْنَعُهُ وَلَا يُضْعِفُهُ عَنْ مَا نَوَى مِنَ الْخَيْرِ ...)([17]).
بدون اليقين لن يستطيع العبد أن ينجز أي شيء في هذه الدنيا؛ لأنه هو القوة الفاعلة التي تدفع العبد للعمل بثبات ورسوخ؛ قال علي أحمد مدكور: (والإنسانُ لا يملكُ أن يكونَ شيئًا في واقعِ هذه الأرضِ، ولا يملكُ أن يكونَ شيئًا في حسابِ هذا الوجودِ، سواء في عالَمِ الغيبِ أو في عالَمِ الشهادةِ، ولا يستطيعُ أن يكونَ قوةً فاعلةً، وأن يكونَ له دورٌ إيجابيٌّ، وأن يحققَ غايةَ وجودِه الإنساني - كما أرادها الله - إلا أن يمتلئ حسُّه وضميرُه، وقلبُه وعقلُه، وكينونتُه كلُّها بحقيقةِ الألوهيةِ.
وما لم يدرك على وجه اليقينِ الواضحِ، والجزمِ الحاسمِ، ما تتطلبُه منه علاقته بهذه الحقيقةِ فإنه لن يقوى على الكفاحِ والصمودِ، والمضي قدمًا في الطريقِ الكئودِ، لإنشاءِ الواقعِ الجديدِ، ويشهدُ في نفسِه وفي غيره ميلاد الإنسانِ الجديدِ)([18]).
لا يأتي اليقين إلا بعد الاعتقاد الجازم؛ قال الرازي: (اليقينُ لا يحصلُ إلا إذا اعتقدَ أن الشيءَ كذا وأنه يمتنعُ كون الأمرِ بخلافِ معتقده، إذا كان لذلك الاعتقاد موجبٌ، هو إما بديهية الفطرةِ وإما نظر العقلِ)([19]).


الهوامش:
([1]) تفسير السعدي، (1/89).
([2]) التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، (9/257).
([3]) الكامل في الضعفاء، ابن عدي، وهو منكر، (7/551).
([4]) الزهد والورع والعبادة، ابن تيمية، ص(78).
([5]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، الشنقيطي، (9/83).
([6]) الاستقامة، ابن تيمية، (1/418).
([7]) المصدر السابق، (2/261).
([8]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (1/51).
([9]) في ظلال القرآن، السيد قطب، (4/2385).
([10]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (3/329).
([11]) المصدر السابق، (3/330).
([12]) بدائع الفوائد، ابن القيم، (4/106).
([13]) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، ص(18).
([14]) مدارج السالكين، ابن القيم، (2/374).
([15]) التخريج السابق.
([16]) الطب النبوي، ابن القيم، ص(160).
([17]) الزهد الكبير، البيهقي، (1/352)، رقم: (969).
([18]) مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها، علي أحمد مدكور، ص(137).
([19]) تفسير الرازي، (2/422).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
تدبر كتاب الله تعالى يصل بالعبد إلى اليقين doc
تدبر كتاب الله تعالى يصل بالعبد إلى اليقين pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى