الأنبياء واليقين: يعقوب وموسى عليهما السلام

الأنبياء واليقين: يعقوب وموسى عليهما السلام






وقف الأنبياء والمرسلون باليقين في أشد الشدائد وأعظم المكائد، فكان الله عز وجل بهم رحيمًا، وبحالهم عليمًا، ففرَّج عنهم الخطوب، وأزال عنهم الهموم والكروب، واليقين هو خُلُق أنبياء الله وعباده الصالحين، رفع اللهُ به درجاتهم، وكفَّر به خطيئاتهم، وأوجب لهم الحب منه والرضوان، والصفح من لدنه والغفران.
يقين يعقوب عليه السلام:
بالرغم من الحزن والألم الذي كان يعتصر قلب يعقوب، إلا أنه كان على يقين بأن الله سيرد له ولديه الذين فقدهما؛ قال الله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه} [يوسف: 86-87].
قال الطاهر بن عاشور: (فجملة: {إنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} مُفِيدَةٌ قَصْرَ شَكْوَاهُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِاسْمِ اللَّهِ، أَيْ يَشْكُو إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى نَفْسِهِ لِيُجَدِّدَ الْحُزْنَ، فَصَارَتِ الشَّكْوَى بِهَذَا الْقَصْدِ ضَرَاعَةً وَهِيَ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وَصَارَ ابْيِضَاضُ عَيْنَيْهِ النَّاشِئُ عَنِ التَّذَكُّرِ النَّاشِئِ عَنِ الشَّكْوَى أَثَرًا جَسَدِيًّا نَاشِئًا عَنْ عِبَادَةٍ، مِثْلَ تَفَطُّرِ أَقْدَامِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ.
وَ"الْبَثُّ": الْهَمُّ الشَّدِيدُ، وَهُوَ التَّفْكِيرُ فِي الشَّيْءِ الْمُسِيءِ، وَ"الْحُزْنُ": الْأَسَفُ عَلَى فَائِتٍ، فَبَيْنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ، وَقَدِ اجْتَمَعَا لِيَعْقُوبَ عليه السلام؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُهْتَمًّا بِالتَّفْكِيرِ فِي مَصِيرِ يُوسُفَ عليه السلام وَمَا يَعْتَرِضُهُ مِنَ الْكَرْبِ فِي غُرْبَتِهِ وَكَانَ آسِفًا عَلَى فِرَاقِهِ.
وَقَدْ أَعْقَبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: {أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}؛ لِيُنَبِّهَهُمْ إِلَى قُصُورِ عُقُولِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ أَنْ يَعْلَمُوهُ أَوْ يَلُومُوهُ، أَيْ: أَنَا أَعْلَمُ عِلْمًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُونَهُ وَهُوَ عِلْمُ النُّبُوةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عليه السلام مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَهِيَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوةِ الْأُولَى، وَحُكِيَ مِثْلُهَا عَنْ شُعَيْبٍ عليه السلام فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَفِي هَذَا تَعْرِيض بردِّ تعرضهم بِأَنَّهُ يَطْمَعُ فِي الْمُحَالِ بِأَنَّ مَا يَحْسَبُونَهُ مُحَالًا سَيَقَعُ.
ثُمَّ صَرَّحَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَعْلَمُهُ، وَكَاشَفَهُمْ بِمَا يُحَقِّقُ كَذِبَهُمُ ادِّعَاءَ ائْتِكَالَ الذِّئْبِ يُوسُفَ عليه السلام حِينَ أَذِنَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ عِنْدَ تَقْدِيرِ انْتِهَاءِ الْبَلْوَى؛ فَقَالَ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ}.
فَجُمْلَةُ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا} مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: {أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
مَا يُثِيرُ فِي أَنْفُسِهِمْ تَرَقُّبَ مُكَاشَفَتِهِ عَلَى كَذِبِهِمْ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْكَيْدِ كَثِيرُ الظُّنُونِ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، وَ"التَّحَسُّسُ" - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ -: شِدَّةُ التَّطَلُّبِ وَالتَّعَرُّفِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّجَسُّسِ – بِالْجِيمِ - فَهُوَ التَّطَلُّبُ مَعَ اخْتِفَاءٍ وَتَسَتُّر)([1]).
يقين موسى عليه السلام:
وها هو كليم الله موسى عليه السلام يقول لأصحابه حينما أدركهم فرعون فوجدوا البحر من أمامهم والعدو من ورائهم: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 61- 68].
وقف موسى صلى الله عليه وسلم والبحر أمامه والعدو وراءه، ومعه أمة خرجت ذليلة لله، مستجيبة لأمر الله، فوقف أمام البحر، فلما قال له بنو إسرائيل: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، قال واليقين معمورٌ به قلبُه ومليءٌ به فؤادُه: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، كلا؛ لا أُدْرَكُ ولا أُهَانُ ومعي الواحد الديان، ففي طرفة عين تنزلت أوامرُ الله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63]؛ وإذا بتلك الأمواج المتلاطمة العظيمة تنقلب في طرفة عين إلى أرض يابسة، وإذا به على أرض لا يخاف دركًا فيها ولا يخشى.
قال الله عز وجل: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 61-63]، سبحان الله! بحر عظيم؛ وفي طرفة عين تنقلب أمواجه إلى صفحة لا يجد فيها رذاذ الماء، ويضرب لهذه الأمة المستضعفة الموقنة بالله جل وعلا طريقًا في ذلك البحر، لا يخاف دركًا ولا يخشى، كل ذلك باليقين بالله.


الهوامش:
([1]) التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، (13/44).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الأنبياء واليقين: يعقوب وموسى عليهما السلام doc
الأنبياء واليقين: يعقوب وموسى عليهما السلام pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى