أحوال الأنبياء واليقين: يقين إبراهيم عليه السلام

أحوال الأنبياء واليقين: يقين إبراهيم عليه السلام






اليقين هو خُلُق أنبياء الله وعباده الصالحين، رفع اللهُ به درجاتهم، وكفَّر به خطيئاتهم، وأوجب لهم الحب منه والرضوان، والصفح من لدنه والغفران، إنه اليقين بالله الذي وقف معه نبيُّ الله آدم أبو البشرية جمعاء، وقف صلى الله عليه وسلم في موقف أليم إذ أحس بالذنب في حقِّ ربه الكريم، وقد بدت له سوءته، فطفق هو وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، فجاءه اليقينُ بالله فنادى ربه وناجاه؛ فغفر اللهُ ذنبه، وستر عيبه، وكفَّر خطيئته، هذا اليقين الذي وقف به الأنبياء والمرسلون في أشد الشدائد وأعظم المكائد، فكان الله عز وجل بهم رحيمًا، وبحالهم عليمًا، ففرَّج عنهم الخطوب، وأزال عنهم الهموم والكروب.
هذا اليقين الذي دخل به يونسُ بن متى عليه السلام بطنَ الحوت في ظلماتٍ ثلاث، لا يراه إلا الله، ولا يطَّلع على خبيئة قلبه من الآلام والحسرات سوى الله، فناداه وناجاه، وتقرَّب إليه جل في علاه، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، فناداه بهذا النداء وكله يقين بأن الله سيرحمه، وناجاه بهذه النجوى وكله يقين بأن الله سيلطف به، فأخرجه الله من الظلمات إلى رحمة فاطر الأرض والسماوات.
هذا اليقين الذي وقف به أيوبُ - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام -، وقد أصابه الضرُّ والبلوى، وعظُمت عليه الشكوى، فنادى ربَّه جل وعلا، فناداه وناجاه بقلبٍ لا يعرف أحدًا سواه، ففرَّج اللهُ عز وجل كربه، ونفَّس همَّه وغمَّه، ورد عليه ما افتقده.
يقين إبراهيم عليه السلام:
تظهر صفة اليقين في محاجة إبراهيم عليه السلام لقومه، وكيف أنه كان واثقًا من نصر الله له، لا يخشى شيئًا من تلك الأصنام المزعومة التي يعبدونها؛ قال الله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 80-81].
قال السعدي: (أيُّ فائدةٍ لمحاجَّةِ من لم يتبين له الهدى؟! فأما من هداه اللهُ، ووصلَ إلى أعلى درجاتِ اليقين، فإنه هو بنفسِه يدعو الناسَ إلى ما هو عليه، {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} فإنها لن تضرني، ولن تمنعَ عني من النفعِ شيئًا، {إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}، فتعلمون أنه وحدَه المعبودُ المستحِقُّ للعبوديةِ.
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} وحالها حالُ العجزِ، وعدمُ النفعِ، {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}، أي: إلا بمجردِ اتباعِ الهوى، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ})([1]).
وكذلك حينما طلب إبراهيمُ عليه السلام من الله أن يريه كيف يحيي الموتى، فقد كان عنده يقينٌ بخبر الله له؛ بدليل أنه كان يدعو الناسَ إلى الإيمان به، وإنما أراد أن يترقى في اليقين فيرى بعينه كيفية الإحياء، ليصل إلى عين اليقين.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
قال السعدي: (وهذا فيه أيضًا أعظمُ دلالةٍ حسيةٍ على قدرةِ اللهِ وإحيائِه الموتى للبعثِ والجزاء، فأخبرَ تعالى عن خليلِه إبراهيمَ أنه سأله أن يريه ببصرِه كيف يحيي الموتى؛ لأنه قد تيقن ذلك بخبرِ اللهِ تعالى، ولكنه أحبَّ أن يشاهدَه عيانًا ليحصلَ له مرتبة عينِ اليقين؛ فلهذا قالَ اللهُ له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، وذلك أنه بتواردِ الأدلةِ اليقينيةِ مما يزدادُ به الإيمانُ ويكملُ به الإيقانُ ويسعى في نيلِه أولو العرفان.
فقال له ربُّه: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي: ضُمهنَّ ليكونَ ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك، {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} أي: مزقهن، اخلطْ أجزاءهن بعضها ببعضٍ، واجعلْ على كلِّ جبلٍ، أي: من الجبالِ التي في القُربِ منه، جزءًا من تلك الأجزاءِ، {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا}، أي: تحصل لهنَّ حياة كاملة، ويأتينك في هذه القوةِ وسرعةِ الطيران.
ففعل إبراهيمُ عليه السلام ذلك، وحصلَ له ما أرادَ، وهذا من ملكوت السماوات والأرضِ الذي أراه اللهُ إياه في قوله: {وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].
ثم قال: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: ذو قوةٍ عظيمةٍ سخَّرَ بها المخلوقات، فلم يستعصِ عليه شيءٌ منها، بل هي منقادةٌ لعزتِه خاضعةٌ لجلالِه، ومع ذلك فأفعالُه تعالى تابعةٌ لحكمتِه، لا يفعلُ شيئًا عبثًا)([2]).

الهوامش:
([1]) تفسير السعدي، (1/262).
([2]) المصدر السابق، (1/111).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
أحوال الأنبياء واليقين: يقين إبراهيم عليه السلام doc
أحوال الأنبياء واليقين: يقين إبراهيم عليه السلام pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى