حال المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم

حال المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم





بشَّر النبيُّ بأن هذه الأمة فيها أناس الواحد منهم يودُّ لو انخلع من أهله وماله ويرى رسولَه الله صلى الله عليه وسلم؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا، نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ))[1]، وعنه أيضًا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ، لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ وَلَا يَرَانِي، ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ))[2].

لقد كان الصحابة يجاهرون بمحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه؛ قَالَ أَنَسٌ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ أَقْوَامٌ هُمْ أَرَقُّ مِنْكُمْ قُلُوبًا))، قَالَ: فَقَدِمَ الْأَشْعَرِيُّونَ، مِنْهُمْ أَبُو مُوسَى، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ جَعَلُوا يَرْتَجِزُونَ: غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّةْ ... مُحَمَّدًا وَحِزْبَه[3].

لم يكن لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هَمٌّ إلا أن يسعدوا بصحبته في الآخرة كما سعدوا بصحبته في الدنيا؛ عن رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: ((سَلْ))، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: ((أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟))، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: ((فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ))[4].

يصوِّر لنا عمرو بن العاص رضي الله عنه كيف كانت محبته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ: (حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، يَبَكِي طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟

قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: ((مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟)) قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: ((تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟)) قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَه؟)).

وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبي)[5].

وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ))، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الآنَ يَا عُمَرُ))[6].

قال ابن حجر: (قال الخطابي: حبُّ الإنسانِ نفسَه طبعٌ، وحبُّ غيره اختيارٌ بتوسطِ الأسباب، وإنما أرادَ صلى الله عليه وسلم حبَّ الاختيارِ، إذ لا سبيلَ إلى قلبِ الطباعِ وتغييرها عما جُبِلَت عليه، قلتُ - أي: ابن حجر -: فعلى هذا فجوابُ عمرَ أولًا كانَ بحسبِ الطبعِ، ثم تأمَّلَ فَعَرِفَ بالاستدلالِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليه من نفسِه لكونِه السبب في نجاتِها من المهلكات في الدنيا والأُخرى، فأخبرَ بما اقتضاه الاختيارُ، ولذلك حصل الجوابُ بقوله: ((الآن يا عمر))؛ أي الآنَ عرفتَ فنطقْتَ بما يجب)[7].

وسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب رضي الله عنه: (كيف كان حُبُّكُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَ وَاللَّهِ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا وَآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ).

وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَدِرَتْ رِجْلُهُ، فَقِيلَ لَهُ: (اذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْكَ يَزُلْ عَنْكَ، فَصَاحَ: يَا مُحَمَّدَاهْ، فَانْتَشَرَتْ).

وَلَمَّا احْتُضِرَ بِلَالٌ رضي الله عنه نَادَتِ امْرَأَتُهُ: (وَاحُزْنَاهْ، فَقَالَ: وَاطَرَبَاهْ، غَدًا أَلْقَى الْأَحِبَّهْ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ)[8].

وقال سفيان رضي الله عنه: (المحبةُ اتباعُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم)[9]، وقال سهل بن عبد الله: (عَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ حُبُّ الْقُرْآنِ، وَعَلَامَةُ حُبِّ الْقُرْآنِ حُبُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَامَةُ حُبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُبُّ السُّنَّةِ، وَعَلَامَةُ حُبِّ السُّنَّةِ حُبُّ الْآخِرَةِ، وَعَلَامَةُ حُبِّ الْآخِرَةِ بُغْضُ الدُّنْيَا، وَعَلَامَةُ بُغْضِ الدنيا ألا يدَّخِرَ منها إلا زادًا)[10].

وقال إسحاق التجيبي - رحمه الله -: (كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ لَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا خَشَعُوا وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُهُمْ وَبَكَوْا، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَحَبَّةً لَهُ وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ تَهَيُّبًا وَتَوْقِيرًا)[11].

وقال مصعب بن عبد الله - رحمه الله -: (كَانَ مَالِكٌ إذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ وَيَنْحَنِي حَتَّى يَصْعُبَ ذَلِكَ عَلَى جُلَسَائِهِ، فَقِيلَ لَهُ يَوْمًا فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ: لَوْ رَأيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَما أنْكَرْتُمْ عَليَّ مَا تَرَوْنَ!! وَلَقَدْ كُنْتُ أرَى مُحَمَّدَ بن الْمُنْكَدِرِ وَكَانَ سَيّدَ الْقُرّاءِ لَا نكاد نسأله عَنْ حَدِيثٍ أبَدًا إلَّا يَبْكِي حَتَّى نَرْحَمَهُ.

وَلَقَدْ كُنْتُ أرَى جَعْفَرِ بن مُحَمَّدٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الدُّعَابَةِ وَالتَّبَسُّم، فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اصْفَرَّ، وَمَا رأيته يُحَدَّثُ عَنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ، وَلَقَد اخْتَلَفْتُ إليْهِ زَمَانًا فَمَا كُنْتُ أرَاهُ إلَّا عَلَى ثَلَاثِ خِصَال: إِمَّا مُصَلّيًا، وإما صامتًا، وَإِمَّا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يعْنِيهِ، وَكَانَ مِنَ الْعُلمَاءِ وَالْعُبّادِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّه عز وجل.

وَلَقَدْ كَانَ عَبْد الرَّحْمنِ بن الْقَاسِمِ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُنْظَرُ إِلَى لَوْنِهِ كَأنَّهُ نُزِفَ مِنْهُ الدَّمُ، وَقَدْ جَفَّ لِسَانُهُ فِي فَمِهِ هَيْبَةً مِنْهُ لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَقَدْ كُنْتُ آتي عَامِرَ بن عَبْد اللَّه بن الزُّبَيْرِ؛ فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَكى حَتَّى لَا يَبْقَى فِي عَيْنَيْه دُمُوعٌ.

وَلَقَدْ رَأيْتُ الزُّهْرِيَّ، وَكَانَ من أهْنَأ النَّاسِ وَأقْرَبِهِمْ، فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَأنَّهُ مَا عَرَفَكَ ولا عرفته، ولقد كُنْتُ آتي صَفْوَانَ بن سُلَيْمٍ، وَكَانَ مِنَ المتعبدين المُجْتَهِدِينَ؛ فَإِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَكى فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى يَقُوم النَّاسُ عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ)[12].

قال القاضي عياض - رحمه الله -: (فالحقيقة؛ مَنْ أَحَبَّ شيئًا أَحَبَّ كُلَّ شَيءٍ يُحِبُّه، وهذه سيرةُ السلفِ حتى في المباحات وشهواتِ النفسِ، وقد قال أنس حين رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة: (فما زلتُ أُحِبُّ الدباءَ من يومئذٍ).

وهذا الحسن بن علي وعبد الله بن عباس وابن جعفر رضي الله عنهم، أتوا سلمى - رضي الله عنها - وسألوها أن تصنع لهم طعامًا مما كان يُعْجِبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يلبسُ النعالَ السبتية، ويصبغُ بالصفرةِ؛ إذ رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يفعلُ نحوَ ذلك)[13].


الهوامش:

([1]) رواه مسلم، (2832).

([2]) رواه مسلم، (2364).

([3]) رواه النسائي في السنن الكبرى، (8294).

([4]) رواه مسلم، (489).

([5]) رواه مسلم، (121).

([6]) رواه البخاري، (6632).

([7]) فتح الباري، ابن حجر، (11/528).

([8]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، (2/53).

([9]) المصدر السابق، (2/66).

([10]) المصدر السابق، (2/63).

([11]) المصدر السابق، (2/59).

([12]) المصدر السابق، (2/43).

([13]) المصدر السابق، (2/62).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
حال المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم.doc doc
حال المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى