الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد جعل اللهُ تبارك وتعالى من سمات عباده المقربين أنه يحبُّهم وهم يحبُّون ربهم، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وقد وصف سبحانه المحبين له بخمسة أوصاف:
أحدُها: "الذلة على المؤمنين"؛ والمراد بها لين الجانب والرأفة والرحمة للمؤمنين وخفض الجناح لهم؛ كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]، ووصف أصحابَه صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك في قوله: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وهذا يرجع إلى أن المحبين لله يحبُّون أحبابه، ويعودون عليهم بالعطف والرحمة.
الثاني: "العزة على الكافرين"؛ والمراد بها الشدة والغلظة عليهم كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]، وهذا يرجع إلى أن المحبين له يبغضون أعداءه، وذلك من لوازم المحبة الصادقة.
وهذا من صفات المؤمن الكامل؛ أن يكون أحدُهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال، فهو ضحوكٌ لأوليائِه قتَّالٌ لأعدائِه([1]).
الثالث: "الجهاد في سبيل الله"؛ وهو مجاهدة أعدائه بالنفس واليد والمال واللسان، وذلك أيضًا من تمام معاداة أعداء الله الذي تستلزمه المحبة.
الرابع: "أنهم لا يخافون لومة لائم"؛ والمراد أنهم يجتهدون فيما يُرضي ربَّهم من الأعمال، ولا يبالون في ذلك لومة مَن لامهم في شيءٍ إذا كان فيه رضى ربِّهم، وهذا من علامات المحبة الصادقة أن المحِبَّ يشتغل بما يُرضي به حبيبه ومولاه، ويستوي عنده مَن حمده في ذلك أو لاَمَه.
الخامس: "متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في أمره ونهيه"، وقد قرن اللهُ بين محبته ومحبة رسوله في قوله {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24]، والمراد: أن اللهَ لا يُوصَل إليه إلا عَن طريقِ رسوله صلى الله عليه وسلم باتباعه وطاعته([2]).
قال ابن القيم: (فَقَدْ ذَكَرَ لَهُمْ أَرْبَعَ عَلَامَاتٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَرِقَّاءُ، رُحَمَاءُ مُشْفِقُونَ عَلَيْهِمْ، عَاطِفُونَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا ضَمَّنَ أَذِلَّةً هَذَا الْمَعْنَى عَدَّاهُ بِأَدَاةِ "عَلَى"، قَالَ عَطَاءٌ: لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَالْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَعَلَى الْكَافِرِينَ كَالْأَسَدِ عَلَى فَرِيسَتِهِ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
الْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّفْسِ وَالْيَدِ، وَاللِّسَانِ وَالْمَالِ، وَذَلِكَ تَحْقِيقُ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ.
الْعَلَامَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَهَذَا عَلَامَةُ صِحَّةِ الْمَحَبَّةِ فَكُلُّ مُحِبٍّ يَأْخُذُهُ اللَّوْمُ عَنْ مَحْبُوبِهِ فَلَيْسَ بِمُحِبٍّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَمَا قِيلَ:
لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ *** يَجِدُ السَّبِيلَ بِهَا إِلَيْهِ اللُّوَمُ
وَمِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا: أَنَّكَ لَا تَتَنَافَسُ إِلَّا فِي قُرْبِ مَنْ تُحِبُّ قُرْبَهُ، وَحُبُّ قُرْبِهِ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ ذَاتِهِ، بَلْ مَحَبَّةُ ذَاتِهِ أَوْجَبَتْ مَحَبَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ ... فمحبةُ الله هي نَعِيمَ الْأَرْوَاحِ، وَبَهْجَةَ النُّفُوسِ، وَقُرَّةَ الْعُيُونِ، وَأَعْلَى نَعِيمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)([3]).
وقال السعدي: (يُخْبِرُ تعالى أنه الغني عن العالمين، وأنه من يرتدَّ عن دينِه فلنْ يضرَّ اللهَ شيئًا، وإنما يضرُّ نفسَه، وأن للهِ عبادًا مخلصين، ورجالًا صادقين، قد تكفَّلَ الرحمنُ الرحيمُ بهدايتِهم، ووعدَ بالإتيانِ بهم، وأنهم أكملُ الخلقِ أوصافًا، وأقواهم نفوسًا، وأحسنهم أخلاقًا، أجلُّ صفاتهم أن الله {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، فإن محبةَ اللهِ للعبدِ هي أجلُّ نعمةٍ أنعم بها عليه، وأفضلُ فضيلة تفضَّلَ اللهُ بها عليه، وإذا أحبَّ اللهُ عبدًا يسَّر له الأسباب، وهوَّن عليه كل عسير، ووفَّقه لفعلِ الخيرات وترك المنكرات، وأقبلَ بقلوبِ عبادِه إليه بالمحبةِ والوداد)([4]).
إن الله سبحانه يختار من عباده مَن يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم، الحب هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش، هو الذي يربط القوم بربهم الودود.
وإذا كان حبُّ اللهِ لعبدٍ من عبيده أمرًا هائلًا عظيمًا وفضلًا غامرًا جزيلًا؛ فإن إنعامَ اللهِ على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد - الذي لا نظير له في مذاقات الحبِّ كلها ولا شبيه - هو إنعامٌ هائلٌ عظيمٌ، وفضلٌ غامرٌ جزيلٌ.
فليتَك تحلو والحـياة مريرة |
وليتَك ترضى والأنامُ غِضَابُ |
وليْتَ الذي بيني وبينَك عامر |
وبــيني وبينَ العالمين خرابُ |
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هينٌ |
وكلُّ الذي فوق الترابِ ترابٌ([5]) |
وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد، والحب من العبد للمنعم المتفضل، يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض، وينطبع في كل حي وفي كل شيء، فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود ويغمران الوجود الإنساني كله، ممثلًا في ذلك العبد المحب المحبوب.
(والتصور الإسلامي يربطُ بين المؤمنِ وربِّه بهذا الرباطِ العجيبِ الحبيبِ، وليست مرةً واحدةً ولا فلتةً عابرةً، إنما هو أصلٌ وحقيقةٌ وعنصرٌ في هذا التصورِ أصيل {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] وغيرها كثير.
وعجبًا لقوم يمرون على هذا كله ليقولوا: إن التصورَ الإسلامي تصورٌ جافٌّ عنيفٌ، يصوِّرُ العلاقةَ بين الله والإنسان علاقةَ قهرٍ وقسرٍ وعذابٍ وعقابٍ وجفوةٍ وانقطاعٍ، لا كالتصورِ الذي يجعل المسيحَ ابن الله وأقنوم الإله فيربط بين اللهِ والناس في هذا الازدواج.
إن نصاعةَ التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقةِ الألوهيةِ وحقيقة العبوديةِ لا تجفف ذلك الندى الحبيب بين اللهِ والعبيد، فهي علاقةُ الرحمةِ كما أنها علاقةُ العدلِ، وهي علاقةُ الودِّ كما أنها علاقةُ التجريدِ، وهي علاقةُ الحبِّ كما أنها علاقةُ التنزيهِ، إنه التصورُ الكاملُ الشامل لكلِّ حاجات الكينونة البشريةِ في علاقتها برب العالمين)([6]).
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.