الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ إن محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مقدَّمة على محبة الأولاد والأموال والنفوس؛ قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة: 24].
فقد أمر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه، فآثرها أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها - كالجهاد والهجرة ونحو ذلك - بالوعيد الشديد والتربص لانتظار العقاب والنكال.
قال الطبري - رحمه الله -: (يقولُ تبارك وتعالى لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمد، للمتخلفين عن الهجرةِ إلى دارِ الإسلامِ، المقيمين بدار ِالشركِ: إن كان المقامُ مع آبائِكم وأبنائِكم وإخوانِكم وأزواجِكم وعشيرتِكم، وكانت {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} يقول: اكتسبتُمُوها، {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} بفراقِكم بلدَكم، {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} فسكنتموها، {أَحَبَّ إِلَيْكُم} من الهجرةِ إلى اللهِ ورسولهِ من دارِ الشركِ، ومن جهادٍ في سبيلِه، يعني: في نصرةِ دينِ اللهِ الذي ارتضاه، {فَتَرَبَّصُوا} يقول: فتنظَّروا، {حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} حتى يأتيَ اللهُ بفتحِ مكةَ، {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، يقول: واللهُ لا يوفِّق للخيرِ الخارِجينَ عن طاعتِه وفي معصيته)([1]).
وقال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: (ثم أمر تعالى رسولَه أن يتوعدَ من آثرَ أهلَه وقرابتَه وعشيرتَه على اللهِ ورسولِه وجهادٍ في سبيلِه ... انتظروا ماذا يحلُّ بكم من عقابِه، والوعيدُ لا يقعُ إلا على فرضٍ لازمٍ وحتمٍ واجبٍ، وفي الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيدِه، لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِه ووالدِه والناسِ أجمعين))([2])، وفي الصحيحين أيضًا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((يا رسول الله، واللهِ لأنتَ أحب إليَّ من كلِّ شيءٍ إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسِك، فقال: واللهِ لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال: الآن يا عمر))([3]))([4]).
قال ابن القيم: (فَكُلُّ مَنْ قَدَّمَ طَاعَةَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ مَرْضَاةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ خَوْفَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَرَجَاءَهُ وَالْتَوَكُّلَ عَلَيْهِ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ وَرَجَائِهِ وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، أَوْ مُعَامَلَةَ أَحَدِهِمْ عَلَى مُعَامَلَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِمَّنْ لَيْسَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَإِنْ قَالَهُ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ، وَإِخْبَارٌ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنَّ قَدَّمَ حُكْمَ أَحَدٍ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَذَلِكَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)([5]).
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -: (فيجبُ تقديمَ محبةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم على النفوسِ والأولادِ والأقاربِ والأهلين والأموالِ والمساكن، وغير ذلك مما يحبه الناسُ غايةَ المحبةِ)([6]).
قال السعدي - رحمه الله -: (وأصلُ الولاية: المحبة والنصرة، وذلك أن اتخاذَهم أولياءَ مُوجِبٌ لتقديمِ طاعتِهم على طاعةِ الله، ومحبتهم على محبةِ اللهِ ورسولِه ... ولهذا ذكرَ السببَ الموجبَ لذلك، وهو أن محبةَ اللهِ ورسولِه يتعين تقديمهما على محبةِ كلِّ شيءٍ، وجعل جميع الأشياء تابعةً لهما.
وهذه الآيةُ الكريمةُ أعظمُ دليلٍ على وجوبِ محبةِ اللهِ ورسولِه، وعلى تقديمها على محبةِ كلِّ شيءٍ، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد على من كان شيءٌ من هذه المذكورات أحبَّ إليه من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله.
وعلامة ذلك؛ أنه إذا عُرِضَ عليه أمران، أحدهما يحبُّه الله ورسوله، وليس لنفسه فيه هوى، والآخرُ تحبُّه نفسُه وتشتهيه ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا لله ورسوله أو ينقصه، فإنه إن قدَّمَ ما تهواه نفسُه على ما يحبُّه الله دلَّ ذلك على أنه ظالمٌ، تاركٌ لما يجبُ عليه)([7]).
قال ابن عاشور: (وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْنَافًا مِنَ الْعَلَاقَاتِ وَذَوِيهَا، مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَأْلَفَهَا النُّفُوسُ وَتَرْغَبَ فِي الْقُرْبِ مِنْهَا وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهَا، فَإِذَا كَانَ الثَّبَاتُ عَلَى الْإِيمَانِ يَجُرُّ إِلَى هِجْرَانِ بَعْضِهَا كَالْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَهْجُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ، وَكَالْأَبْنَاءِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْعَشِيرَةِ الَّذِينَ يَأْلَفُ الْمَرْءُ الْبَقَاءَ بَيْنَهُمْ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يُقْعِدُهُ عَنِ الْغَزْوِ، وَكَالْأَمْوَالِ وَالتِّجَارَةِ الَّتِي تَصُدُّ عَنِ الْغَزْوِ وَعَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ الْمَسَاكِنُ الَّتِي يَأْلَفُ الْمَرْءُ الْإِقَامَةَ فِيهَا فَيَصُدُّهُ إِلْفُهَا عَنِ الْغَزْوِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّعَارُضُ وَالتَّدَافُعُ بَيْنَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ مَا تَجُرُّ إِلَيْهِ تِلْكَ الْعَلَائِقُ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ دَحْضُهَا وَإِرْضَاءُ رَبِّهِ.
وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى التَّعْبِيرُ بِـ(أَحَبَّ)؛ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي الْمَحَبَّةِ يَقْتَضِي إِرْضَاءَ الْأَقْوَى مِنَ الْمَحْبُوبِينَ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّهَاوُنِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ مَعَ الْكِنَايَةِ عَنْ جَعْلِ ذَلِكَ التَّهَاوُنِ مُسَبِّبًا عَلَى تَقْدِيمِ مَحَبَّةِ تِلْكَ الْعَلَائِقِ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ، فَفِيهِ إِيقَاظٌ إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ مَهْوَاةٍ فِي الدِّينِ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ التَّعْبِيرِ.
وَخُصَّ الْجِهَادُ بِالذِّكْرِ مِنْ عُمُومِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُمْ: تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ، وَلِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ عَلَى النُّفُوسِ وَمِنْ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَمُفَارَقَةِ الْإِلْفِ، جَعَلَهُ أَقْوَى مَظِنَّةً لِلتَّقَاعُسِ عَنْهُ ... وَجُعِلَ التَّفْضِيلُ فِي الْمَحَبَّةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَبَيْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ: لِأَنَّ تَفْضِيلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ يُوجِبُ الِانْقِطَاعَ عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، فَإِيثَارُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ يُفْضِي مُوَالَاةً إِلَى الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْكُفْرَ، وَإِلَى الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ)([8]).
(إنَّ هذه العقيدةَ لا تحتملُ لها في القلبِ شريكًا؛ فإما تجردٌ لها، وإما انسلاخٌ منها، وليس المطلوبُ أن ينقطعَ المسلمُ عن الأهلِ والعشيرةِ والزوجِ والولدِ والمالِ والعملِ والمتاعِ واللذةِ؛ ولا أن يترهبنَ ويزهدَ في طيبات الحياة ... كلا؛ إنما تريدُ هذه العقيدةُ أن يخلصَ لها القلبُ، ويخلصَ لها الحبُّ، وأن تكونَ هي المسيطرةُ والحاكمةُ، وهي المحركةُ والدافعةُ، فإذا تمَّ لها هذا فلا حرجَ عندئذٍ أن يستمتعَ المسلمُ بكلِّ طيبات الحياة؛ على أن يكون مستعدًّا لنبذها كلها في اللحظةِ التي تتعارض مع مطالب العقيدة)([9]).
عن أبي عَبْدِ اللهِ بْنَ خَفِيفٍ قال: (دَخَلَ الْبَصْرِيُّ عَلَى أَبِي عَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَيْنَ تَعْرِفُ فِي نَصِّ الْكِتَابِ أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ فَرْضٌ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، وَلَكِنْ يَقُولُ الْقَاضِي: فَقَالَ لَهُ: قَوْلَهُ عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا}، وَالْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ فَرْضٍ)([10]).
الهوامش:
([1]) تفسير الطبري، (14/ 177)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000م.
([7]) تيسير الكريم الرحمن، السعدي، المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص(332)، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى 1420هـ -2000م.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.