الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل (2)

الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل (2)





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛

1-اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وحبه ودراسة سيرته:

وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الدين كله، وأن ذلك أول أسباب محبة الله تعالى المسلمين؛ بل لا يصح سببٌ إلا من بعد هذا الاتباع المصحوب بمحبة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاتباعه ليس اتباعَ مُكرَه وكاره، بل اتباع مُحِبٍّ ومُقْبِلٍ، ومحبة أهل بيته - رضوان الله عليهم جميعًا - وخاصة من وردت فيهم الأحاديثُ ممن سبق ذكرهم، وكذلك جميعُ الصحابة الأخيار، بل جميعُ أولياء الله تعالى.

إن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله وأخلاقه وكل أموره سببٌ من أسباب محبة الله ورسوله، إضافةً إلى كونه لازمًا من لوازم هذه المحبة كما قدَّمنا؛ ذلك لأنه لا يمكن أن يُتَصور للعبد محبة لله ولرسوله بدون اتباعه لرسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته والاقتداء به، وهو صلى الله عليه وسلم الذي دلَّ الخلقَ على كلِّ خير وحذَّرهم من كلِّ شر، فمحبته وطاعته والاقتداء به واجبٌ ديني، ودين على كل عاقل يعرف الجميلَ لأهلِه.

لأن شكر المنعم أمرٌ مطلوبٌ ومرغوبٌ، وجبلةٌ فطر اللهُ الخلقَ عليها، فمن لم يشكرْ الناسَ لم يشكر اللهَ، وإن أولى الناس بالشكرِ لرسولُ الله صلى الله عليه وسلم، الذي ما ترك خيرًا إلا ودلَّنا عليه، ولا شرًّا إلا وحذَّرنا منه، وشكرُه صلى الله عليه وسلم إنما يكون بالإيمان به ومحبته فوق النفس والمال والأهل والناس أجمعين، ويكون أيضًا بالاقتداء به والسير على خطاه في كلِّ أموره صلى الله عليه وسلم لأنه القدوة الحسنة للمؤمنين.

وقد اشترط اللهُ لصدق محبة العبد له شرطًا عظيمًا جليلًا، ألا وهو اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، فمن لم يتبعْ رسولَه صلى الله عليه وسلم فليس بمحبٍّ له في الحقيقة؛ لأن المحب لمن يحب مطيعٌ.

فمن أحبَّ اللهَ صادقًا أطاعَ رسولَه واتبعه، بل وجرَّد المتابعة له، فنال مع محبته لله شيئًا آخر هو أعظم من الأول، ألا وهو محبة الله تعالى له ومغفرته له ذنوبه، كما بينت الآية الآنفة الذكر؛ لذا كان المحبون الصادقون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حريصين كل الحرص على اتباعه صلى الله عليه وسلم في كلِّ أمرٍ من أموره، وعلى التمسك بسنته الشريفة والعمل بها وتقديمها على قول كلِّ أحدٍ أو مذهبه كائنًا من كان، لأنهم يعلمون أنه لا قول لأحد مع قوله صلى الله عليه وسلم، لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى([1]).

فدراسةُ السيرة النبوية وتعليمها للناس أمرٌ جليلٌ وهام، وسببٌ من أهم الأسباب التي تجلب وتُقَوِّي محبته صلى الله عليه وسلم في القلوب، لأنه صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى للمسلم في كلِّ أمرٍ من أمور الحياة؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

فعليهم إذًا أن يدرسوا سيرتَه ليقتدوا به، وكم كانت لدراسة سيرته صلى الله عليه وسلم من آثارٍ طيبة في إيمان كثير من الناس، أو تغيير مفاهيم خاطئة عن الدين الإسلامي وعن نبيه صلى الله عليه وسلم، كان يظنها أو يعتقدها من لا يعتنق الإسلام، بل إن أحد عظماء الكفار وفلاسفتهم ألَّفَ كتابًا سماه "عظماء العالم"، وقد جعل الدرجة الأولى والعظيم الأول في التاريخ رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن درس سيرته وتاريخ كل عظيم ممن صنَّفه في كتابه ذلك.

فيجب على المسلم أن يتفقَّه في دينه، وأن يقرأ ويدرس سيرةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، لينهج نهجه ويقتدي به، فيزداد له حبًّا ولسنته اتباعًا، فإن الإيمان يزيد بالطاعة والمتابعة وكذا محبة الله ورسوله، وينقصان بالمعصية.

2-الإخلاص في العبادة:

(أداءُ الفرائضِ، التقربُ إلى اللهِ بالنوافل، إتيانُ العزائم في مواطنِها والرخص في مواطنِها، تركُ المعاصي)، وخلاصتها:

• أداء الفرائض التي افترضها الله تعالى على عباده باتباعٍ وإخلاص، وما يبدو على مؤدي الفرائض من آثارها؛ كأثر السجود في الوجه، وأثر الصوم على البدن، والنفقة على المال، والله أعلم.

 • التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، وتحرِّي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أفضل من تطوَّع.

 • الأخذ بالعزائم في مواطنها؛ فإنه مِن تقوى الله عز وجل، والأخذ بالرخص في مواطنها؛ فإنه من قبول إحسان المنعم سبحانه.

 • ترك المعاصي.

 • صلاة الليل في السفر؛ فإنها وإن كانت نافلةً في موطن رخصة دليلُ همة العابد وارتباط العبد بربه، ثم إنها عمل خير ينبغي للمواظب عليه ألا يهجره في حضر ولا سفر.

3-التخلق بمكارم الأخلاق:

(الحياءُ والسترُ، الرفقُ، التقى مع الغنى مع الخفاءِ، البرُّ والتُقى والخفاءُ، الحلمُ والأناةُ، التحديثُ بالنعمِ وإبداؤها، الجمالُ، السماحةُ في البيعِ والشراءِ والقضاءِ)، ومنها: نفع الناس، وإدخال السرور على المسلم؛ تفريجُ كَرْبِه، إطعامُه، تأمينُه، وإدخالُ السرور على المسلم، وتفريج كربهم، وقضاء ديونهم عنهم، ودفع الجوع عنهم والجزع؛ وهو الخوف والحزن.

وخلاصته: أن مما يحبه اللهُ ويحب فاعلَه السعيُ في حاجة الناس؛ فإن نصوص الشريعة متظاهرة على ذلك، حتى غدا بابَ خيرٍ عظيمٍ تحتاجه الأمة ويحتاجه الفرد، وإن هذا الباب مما أغلقه الناس أو كادوا في زماننا، فإن الله I يحبُّ من ينفع الناس، وكلما كان الإنسان أنفع للناس كان أحبَّ إلى الله سبحانه.

ومنها: المداومة على العمل الصالح، والإكثار منه في عشر ذي الحجة، وخلاصته: أن أحب الأعمال إلى الله تعالى هو أي عمل صالح يستطيعه المسلم ويداوم عليه؛ سواء كان صلاةً أو صدقةً، أو صومًا أو حجًّا، أو بِرًّا أو جهادًّا، أو ذِكرًا ... إلخ.

 ولا إشكال بين حديث ((أحب الأعمال إلى الله أدومها))، وبين الأحاديث الأخرى التي تذكر أحبَّ الأعمال إلى الله وتغاير بين هذه الأعمال؛ لأنه يمكن الجمع بينها بما جمع به العلماء مما سبق إيراده، وبأن أحب الأعمال إلى الله تعالى الصلاة على وقتها للمداوم عليها؛ فإن الصلاة أفضل أعمال الإسلام، ثم يليها برُّ الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله، ثم دوام ذكر الله، ثم نفع المسلمين وإدخال السرور عليهم، وهكذا إلى آخر الأعمال المحبوبة عند الله، وكلٌّ بحسب طاقته واستطاعته.

ولذا؛ قال في أول هذا الحديث ((سَدِّدُوا وقارِبُوا))؛ فسدِّدُوا: أي الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل، وقاربوا: أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرِّب منه؛ أي لا يكلَف أحدُكم من الأعمال إلا ما يطيق؛ ولذا في بعض روايات هذا الحديث: ((اكلُفُوا من الأعمالِ ما تُطِيقُون)).

 والأعمال كما تكون أحبَّ إلى الله تعالى في نفسِها، فإن الأزمان وكذلك الأماكن تتفاضل في الأحبية مهما كان العمل؛ شريطة أن يكون عمل خيرٍ وبرٍّ مرضيٍّ لله تعالى في نفسِه، وكلما جمع العمل بين هذه العناصر كالصلاة مثلًا؛ إذا كانت على وقتها وفي المسجد الحرام كانت أحبَّ إلى الله سبحانه من صلاةٍ نقص منها أحدُ هذه العناصر.

4- النظر في النعم والآلاء والشكر عليها:

إن من أهم أسباب محبة الله تعالى، النظر في النعم والآلاء والتفكر في الإحسان الذي وهبه الله للعباد، فإن القلوب مفطورةٌ على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، وقد قيل: إن الإنسان عبدُ الإحسان، كما قال الشاعر:

أَحْسِن إلى الناسِ تستعبدْ قلوبَهم

فطالما استعبدَ الإنسانَ الإحسانُ

وكلما زاد المحسنُ في إحسانه ازدادت له محبة المحسن إليه، ولا أحد أعظم إحسانًا وكرمًا وجودًا للعباد من الله تبارك وتعالى، فإن عباده يتقلَّبون في نعمه وإحسانه ليلَ نهار، ويتمتعون بجوده وكرمه، ونعمه عليهم لا تُعَدُّ ولا تُحصى؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].

فالإنسان يعجز عن عدِّ نعم الله تعالى عليه لكثرتهم وضخامتها؛ لأنها بحارٌ من النعم والإحسان، ومن أعظمها خلقه تعالى له، وإيجاده على هذا الكون على أحسن صورة وأكمل منظر، وتفضيله إياه على كثيرٍ من خلقه؛ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

فخَلْقُ الإنسان وحده بهذه الصورة الجميلة العجيبة، آيةٌ ونعمةٌ عظيمةٌ تستوجب من العبد محبة الباري وعبادته وشكره دون سواه، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، إذ إنه تعالى قد خلقه من العدم بعد أن لم يكنْ شيئًا، فكان نطفةً ثم علقةً ثم مضغةً يتنزه عنها كل إنسان، ثم صوَّره بشرًا سويًّا في أحسن تقويم، وغذاه في بطن أمه ورعاه، ويسَّر له الخروج منه، وهيَّأ له الحنان والرحمة من أبويه ومن الخلق حوله؛ {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 4 - 10].

بل وسخَّر له كل ما في السماوات والأرض من بحار وأنهار وسماء، وأباح له الطيبات والنعم التي لا تُحصى؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، وقال أيضًا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 32، 33].

إن نعم الله تعالى وآلائه على عباده مشهودة لا تُحصى، وهم يتقلبون فيها ويتمتعون بها في الليل والنهار، وبعدد أنفاسهم ولحظاتهم، وهم عاجزون عن عدِّها وحصرها، فعليهم أن يحبوه ويعبدوه ويشكروه عليها، وإن كانوا عن أداء شكرها أشد عجزًا، لكن من واجب المنعم عليه تجاه من أحسن إليه شكرُه، وقد أخبر تعالى أنهم إن شكروه على نعمه فإنه سيزيدهم، وإن كفروه فإن عذابه أليم؛ قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

فإذا كان هذا فضله سبحانه، وهذه نعمه وآلاؤه؛ فحريٌّ على العباد أن يحبوه حبًّا لا يدانيه حب، وأن يتعلقوا به تعلقًا يفوق كل تعلق، وأن يرجوا رضاه ورحمته، وحريٌّ بهم أيضًا أن لا يصرفوا الحب الخالص إلا له I، ولا يكون التعلق إلا به، وأن لا يُحِبُّوا شيئًا سواه، إلا أن يكون تبعًا لحبه تعالى إياه؛ كحب كلامه وكتابه ورسوله والمؤمنين وسائر ما يُضاف إليه ويحبه عز وجل من أعمالٍ وذوات ... إلخ.

وإن كانت المحبة إنما تنشأ وتزداد بمشاهدة العبدِ لنعمه تعالى ودوام مطالعة آلائه وإحسانه؛ فعليه أن لا يقعد ولا يتكاسل قط عن النظر في النعم والآلاء، لأن الاستمرار على ذلك يزيد من محبته لربه وعبادته له، فيتمكن حبُّه من سويداء قلبه، ويحبه أكثر مما سواه، وليس للنظر ومشاهدة نعم الله والتفكر بها حدٌّ، لأن نعمه تعالى لا تُحصى وتتجدد كل يوم ولا تنفد.

5- التقرب بالنوافل بعد الفرائض:

إن تقرب العبد المؤمن إلى ربه عز وجل بالنوافل بعد أدائه للفرائض التي فرضها عليه أمرٌ جليل، وسببٌ من أسباب محبة الله له ورحمته تعالى إياه، ومنِّه عليه برزقه ومحبته عز وجل، فهي توصل إلى درجة المحبوبية من الله للعبد بعد درجة محبة العبد لربه كما قال ابن القيم - رحمه الله -([2]).

يشهد لذلك الحديثُ القدسي الجليل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ قالَ: من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ، وما تقربَ إلى عبدي بشيءٍ أحب إلى مما افترضتُه عليه، وما يزالُ عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه وإن استعاذني لأُعيذنَّه)([3]).

فلقد بيَّن لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث القدسي العظيم الذي يرويه عن ربه عز وجل، أنه تعالى هدَّد وأعلم بالحرب من يؤذي له وليًّا، ولاشك أن من حاربه اللهُ تعالى فقد أهلكه، إذ لا أحد يقدر على حرب الله تعالى.

ووليُّ اللهِ، هو كلُّ مؤمنٍ تقي؛ كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]، فقد أخبر أصدقُ القائلين في هاتين الآيتين الكريمتين أن أولياءه هم المتقون، وكفى بهذا الإخبار بيانًا للعاقلين.

وقد بيَّن اللهُ عز وجل حقيقة المتقين في سورة البقرة في قوله عز وجل من قائل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، فمن آذى لله وليًّا من أوليائه فقد حاربَ اللهَ تعالى، ومن حاربَ اللهَ فقد خسر وخاب، لأن الله سيحاربه ويهلكه ويخزيه.

كما بيَّن لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآنف الذكر أيضًا، أن من أسباب محبته عز وجل أداء العبد للفرائض التي فرضها الله عليه، والتقرب إليه بالنوافل بعدها، وبيَّن أيضًا أن أداء الفرائض أحب ما يتقرب إليه المتقربون عز وجل ثم بعدها النوافل، وأن العبد المحب له تعالى لا يزال يُكثر من النوافل حتى يصير محبوبًا له عز وجل.

فإذا صار محبوبًا لله تعالى وفَّقه اللهُ لكل خير، وجعله مسددًا في القول والعمل، والنظر والسمع، وكل أمر من أمور حياته، لأنه لا يعمل ولا يتكلم ولا ينظر ولا يسمع إلا ما يُرضي اللهَ منه ويحبه، فلا يقرب شيئًا حرَّمه الله وأبغضه، بل أعماله وأقواله ومشيه ومعاملاته كلها فيما يحب اللهُ ويرضاه، وطلبُه مقبول، ودعاؤُه مستجاب من ربه عز وجل، لأنه قد وفَّقه الله واصطفاه لمحبته ورضاه لتقربه إليه بما يحبه من الفرائض والنوافل.

فتبين من الحديث الشريف أن أولياء الله تعالى على درجتين، كما بيَّن العلامة ابن رجب([4]) - رحمه الله -:

-درجة المقربين: وهم الذين تقربوا إليه عز وجل بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات وترك المحرمات، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وأداء الفرائض أفضل الأعمال وأحبها إلى الله كما سبق في الحديث، وقد قال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: (أفضلُ الأعمال أداءُ ما افترضَ اللهُ، والورعُ عما حرمَ اللهُ، وصدقُ النيةِ فيما عند اللهِ تعالى).

-درجة السابقين المقربين: وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في النوافل والطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبة الله له؛ كما قال تعالى: ((ولا يزالُ عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافل حتى أحبه))، ومن أحبه اللهُ رزقه محبته وطاعته والاشتغال بذكره وخدمته، فأوجب له القرب منه والزلفى لديه، والحظ عنده.

هذا وقد بيَّن العلماءُ - رحمهم الله - المعنى الصحيح المراد من الحديث، والذي ملخصه: أن ذلك كناية عن نصرةِ الله للعبد المؤمن وتأييده وإعانته وتوفيقه، حتى كأنه سبحانه يُنْزِلُ نفسَه من عبده منزلةَ الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية: ((فبي يسمعُ، وبي يبصرُ، وبي يبطشُ، وبي يمشي))، وهذا المعنى عليه اتفاق العلماء ممن يُعتد بهم، كما قال بعض العلماء - رحمهم الله -.

وقال آخرون: هذه المذكورة أمثال، والمعنى: أن اللهَ يوفق عبدَه في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه، ويعصمه عن مواقعة ما يكرهه عز وجل من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى عنه تعالى ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله([5]).

ويقول العلامة ابن رجب - رحمه الله -: (المراد من قوله تعالى: ((كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به ...))، أنَّ من اجتهدَ بالتقربِ إلى اللهِ تعالى بالفرائض ثم بالنوافل، قرَّبه اللهُ إليه ورقَّاه من درجةِ الإيمانِ إلى درجةِ الإحسان، فيصير يعبد اللهَ على الحضورِ والمراقبةِ كأنه يراه، فيمتلئ قلبُه بمعرفةِ اللهِ تعالى، ومحبته وعظمته، وخوفه ومهابته وإجلاله، والأنس به والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبِه من المعرفةِ مُشاهدًا له بعينِ البصيرة)([6]).

 

الهوامش:

([1]) محبة الله ورسوله في الكتاب والسنة، د.غسان أحمد عبد الرحمن، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1425ه، 2004م، بيروت، ص(401-402).

([2]) مدارج السالكين، ابن القيم، (3/17).

([3]) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، (6502).

([4]) جامع العلوم والحكم، ابن رجب، ص(340).

([5]) فتح الباري، ابن حجر، (11/344).

([6]) جامع العلوم والحكم، ابن رجب، ص(344).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل (2).doc doc
الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل (2).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى