إن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه والتمسك بسنته من أوجب الواجبات على كل مسلم، وإنه لا سعادةَ ولا نجاةَ للعباد ولا فوزَ لهم في المرجع والمآل إلا بذلك.
قال سبحانه مبشِّرًا عباده الطائعين ومحذِّرًا العصاة الماردين: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13-14]، فقد رتَّب اللهُ عز وجل الدخول إلى الجنان والفوز العظيم على طاعته وطاعة رسله، كما جعل سبب دخول النار والعذاب المهين - والعياذ بالله - معصيته ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال سبحانه أيضًا مبشِّرًا الطائعين لله ورسوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69-70].
وقد أخبرَ سبحانه بأن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم سببٌ لرحمته عز وجل ولهدايته للعباد؛ قال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]، وقال في حقِّه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]؛ ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الصراط المستقيم، فمن أطاعه واتبعه واقتدى به فقد اهتدى، ومن كان بخلاف ذلك فقد ضلَّ وغوى - والعياذ بالله -؛ لذلك كان في الاستجابة لله ولرسوله الحياة الحقة للمؤمنين؛ قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
لذا أوجب اللهُ على المؤمنين التحاكم إلى كتابه وإلى سنة نبيه عند الخلاف، مبينًا عز وجل أن ذلك هو خيرٌ لهم وأحسن مآلًا وعاقبة؛ قال أصدق القائلين: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، فأمرنا أن نرد الأمر إلى الكتاب والسنة في كل شيء من أمور حياتنا عند التنازع، لأن فيه الخير والسعادة لنا؛ ولأن ما يحكم به الكتاب والسنة هو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟! لذلك قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
يقول الإمام ابن كثير([1]) - رحمه الله - أن من لم يتحاكمْ في محل النزاعِ إلى الكتابِ والسنةِ ولا يرجعُ إليها في ذلك فليس مؤمنًا باللهِ ورسولِه، والردُّ إلى اللهِ والرسولِ المذكورُ في الآيةِ هو الردُّ إلى الكتابِ والسنةِ كما قالَ مجاهدُ وعطاءُ وغيرُهما من السلف - رحمهم الله -([2]).
وقال تعالى في حقه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]؛ فهو صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة للمؤمنين الذين يرجون الله ويبتغون رضاه وجنته، لأنه صلى الله عليه وسلم يهديهم إلى ربهم وإلى رضوانه وإلى صراط مستقيم؛ قال سبحانه في حقه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فمن اتبعه واقتدى به فقد هُدي إلى صراط مستقيم، ومن عصاه ولم يتبعه فقد ضلَّ وغوى.
قال سبحانه محذرًا ومتوعدًا من يخالفه صلى الله عليه وسلم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]؛ أي: فليخشَ وليحذر من خالفَ شريعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا {أَنْ ُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا بقتلٍ أو حدٍّ أو حبسٍ أو غير ذلك، وفي الآخرة بعذاب النار والعياذ بالله([3]).
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ((صلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصبحَ ذات يوم، ثم أقبلَ علينا، فوعظنا موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائلٌ: يا رسول اللهِ، كأن هذه موعظةٌ مودعٍ، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكُم بتقوى اللهِ، والسمعِ والطاعةِ، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يَعشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ مُحدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة))([4]).
ففي هذا الحديث الشريف يوصينا صلى الله عليه وسلم بتقوى الله التي هي فعل الطاعات وترك المحرمات، والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبدًا، ثم يخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستختلف اختلافًا كثيرًا وتبتعد عن المنهج السوي، وبيَّن أن النجاة بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم، فأمرنا بالتمسك بها أيما تمسك، ونهانا عن البدع لأن كل بدعة ضلالة.
وهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ومن أعلام نبوته؛ إذ فيه إخبارٌ لما حدث لأمته بالفعل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوتُه واشتد غضبُه، كأنه منذرُ جيشٍ يقول: ((صبَّحَكم ومسَّاكُم))، ويقول: ((بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين)) ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: ((أما بعد: فإن خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٍ))، ثم يقول: ((أنا أولى بكلِّ مؤمنٍ من نفسِه، من ترك مالًا فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليَّ وعليَّ))([5]).
فقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الجليل أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، لأن فيهما السعادة والهداية للبشرية، فمتى تركهما العبدُ فقد غوى وضل، كما بيَّن صلى الله عليه وسلم أن البدع شر الأمور، موضحًا أنها ضلالة كلها، وليس فيها أية فائدة لأنها زيادة على شرع الله الذي أنزله وأتمَّه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث آخر يخبر صلى الله عليه وسلم أنه متى تمسكت أمتُّه بكتاب ربها وسنته صلى الله عليه وسلم فإنها مهدية، ومتى لم تكن كذلك فإنها بعيدة عن الهدى ضالة - والعياذ بالله - قال صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلنْ تضلُّوا أبدًا؛ كتاب اللهِ وسنة نبيِّه))([6]).
ويقول أيضًا صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ أمتي يدخلون الجنةَ إلا من أبَى))، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((منْ أطاعني دخلَ الجنةَ ومنٍ عصانِي فقدْ أبَى))([7])، ففي طاعته صلى الله عليه وسلم دخول الجنة وفي معصيته البعد عن رحمة الله.
فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به؛ من الأمور الكبيرة إلى الطعام والشراب - كما قال شيخ الإسلام([8]) -، فإن هذا إذا فات حصل الموتُ في الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذابُ في الدارين، فحريٌّ وحقٌّ على كل مسلم أن يبذل كل جهده واستطاعته في معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم وطاعته والاهتداء بهديه، ليكون من الناجين السعداء في دار الجنة دار الخلد والنعيم.
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.