الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛..
رؤية ذات الله بعيني الرأس في الدنيا
يدعي بعض الصوفية رؤية الله تعالى في الحياة الدنيا. وللأسف هذا ما صرح به احتمالاً القشيري في رسالته، حيث قال: ((فإن قيل: فهل تجوز رؤية الله في الأبصار في الدنيا على جهة الكرامة؟ فالجواب عنه: أن الأقوى فيه أنه لا يجوز لحصول الإجماع عليه، ولقد سمعت الإمام أبا بكر بن فورك رضي الله عنه يروي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: في ذلك قولان، وذلك في كتاب الرؤية الكبير. اهـ[1]
قلت: وهذا من التخليط الواضح حيث يقول إن المسألة مجمع عليها، ثم ينقل فيها أقوالاً!
وقبل البدء في تفنيد هذه المزاعم ألخص البحث في نقاط:
أولاًـ هناك من يصور أن اختلافاً بين الصحابة قد وقع في كون النبيّ محمد عليه الصلاة والسلام قد رأى ربه سبحانه وتعالى بعيني رأسه أم أنه لم يره، عائشة تنفي وابن عباس يثبت، والحقيقة أن ابن عباس يقول بكون النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه بفؤاده لا بعينيه، وطبعاً هذه لا تكون إلا لمن يوحي إليهم الله سبحانه وتعالى، وعائشة تنفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بعيني رأسه، فإذا بُيّن هذا عُلم أنه لا اختلاف من حيث المضمون بينهم.
قال الحافظ ابن كثير: ومن رُوى عنه بالبصر ـ أي الرؤية بالبصر ـ فقد أغرب فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم.[2]
ثانياًـ أن أحداً من العلماء لم يتطرق في هذا الاختلاف المظنون إلى إقحام عامة الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في كونهم مجالاً للبحث هل يرون ربهم بعيني رأسهم أو بفؤادهم في الدنيا.
كذلك تجب الإشارة إلى شيء وهو على فرضية إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى بعيني رأسه، فهذا ليس معناه أنها مجال احتمال لأحد غيره من البشر، والدليل:
ـ أنها لم تقع لأحد من الصحابة أو التابعين أو أتباعهم وهم خير القرون والأمة، وكل من تكلم بها لا يعدو قصص يختلقها عن أناس صالحين لا سند لها، وقد قال ابن المبارك: لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، كما في مقدمة صحيح مسلم، والقاعدة عندنا إذا كنت مدعياً فالدليل وإذا كنت ناقلاً فالصحة. وأنى لهم هذا.
ـ أن قاعدة الرؤية عند البشر أن يصفوا المرئي، وأنى لهم هذا وقد قال ربنا في محكم التنـزيل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. قال الجنيد رحمه الله تعالى: كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.
اًـ لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين: ((من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي)). ولم يتطرق لنفي التشبيه من الشيطان عن الله عز وجل، والجواب: أنه لم يكن يتطرق لذهن أحد من الصحابة أن رؤية الله ممكنة للبشر لأنهم سيد من فهم معنى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
ـ أن هناك فرق بين رؤيا الأنبياء وهي حق كما صح في الحديث وبين غيرهم من البشر
فكيف سيتحقق من يرى ربه في اليقظة أو على أقل تقدير في المنام ـ حيث لم يفرق ونحن نحملها هنا على أخف الاحتمالين ـ أن هذا المرئي هو الله عز وجل، ومن سنصدق إن جاءنا اثنان وقال كل منهم أنه رأى ربه وكل منهم أعطى وصفاً ـ والعياذ بالله مما أكتب ـ مخالفاً للآخر؟!
ـ إن قال أحدهم أنه رأى الله فمن الذي سيخبره أن هذا الذي رآه هو الله؟!
والجواب واضح طبعاً ولا مجال لاحتمال آخر وهو المرئي نفسه، وبهذا يقع هذا الرائي في احتمالين لا ثالث لهما: إما أن يثبت تكليم الله تعالى مباشرة له كما كلم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام تكليما، أو أن الله تعالى أوحى إليه كما أوحى إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام؟!
وبعد كل ما تقدم لن تتخيلوا مدى الكارثة التي نحن فيها من تجاوز لنصوص المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وذلك للحديث المرفوع أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا)).
والحديث صحيح وله أكثر من طريق فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه[3] (( تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت ))
ورواه ابن ماجه في سننه[4] عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكثر... إنه يبدأ فيقول أنا نبي ولا نبي بعدي ثم يثني فيقول أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور...)).
ورواه النسائي في الكبرى[5] عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إني حدثتكم عن المسيح الدجال... فاعلموا أن ربكم تبارك وتعالى ليس بأعور وإنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا)).
وروى ابن أبي عاصم في السنة[6] عن عمرو بن ثابت الأنصاري عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ وهو يحذر من الدجال: ((أتعلمون أنه لن يرى أحدكم ربه حتى يموت)).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري[7] بعد إيراده لحديث مسلم: ((فإن جازت الرؤية عقلاً فقد امتنعت سمعاً)).
أما بالنسبة لكون الصحابة قد اختلفوا في إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ دون غيره من البشر ـ لربه تبارك وتعالى بعيني رأسه، فالحقيقة أنهم لم يختلفوا، وسبب هذا أن بعض الرواة عن ابن عباس رضي الله عنهما قد روى ما يُفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه بعيني رأسه يوم عرج به إلى السماء ومنهم عكرمة، فقد روى الترمذي[8] وغيره عن عكرمة عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه، قلت: أليس الله يقول {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقال: أريه مرتين.
وهذه الرواية عند الترمذي تفسرها الرواية عند مسلم في صحيحه[9] عن أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى} قال: رآه بفؤاده مرتين.
والذي يقطع بأن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول قوله هذا برأيه يتأول، أن عائشة رضي الله عنها صرحت بأنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نفس الآية {ولقد رآه نزلة أخرى} فقال لها: إنه رأى جبريل، كما في صحيح مسلم[10] عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت: ما هن، قالت: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل {ولقد رآه بالأفق المبين} {ولقد رآه نزلة أخرى} فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (( إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السماء إلى الأرض )) فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول:{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} أو لم تسمع أن الله يقول: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم}.
كذلك يُظهر أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يتأول في تفسيره ما رواه مسلم في صحيحه[11] عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: {ما كذب الفؤاد ما رأى} قال: رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح،
كذلك ما رواه مسلم في صحيحه[12] عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه {ولقد رآه نزلة أخرى} الآية، قال: رأى جبريل، قلت: بل أبعد من ذلك فإن في المسألة نص ثابت صريح عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم صراحة عن رؤيته الله تعالى وأجاب بالنفي كما روى ذلك مسلم في صحيحه[13] عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل رأيت ربك، قال: ((نور أَنى أراه )).
كذلك روى مسلم في صحيحه[14] ما يبين حقيقة هذا النور الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: (( إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)).
وهنا يجب علينا أن نبين أن تأويل ابن عباس رضي الله عنهما الآية على هذا النحو كان يعتمد فيه على أصل أصيل وإن أخطأ فيه، فقد ثبتت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المنام على نحو يليق بكمال الله تعالى، سكت عنها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأله عن كيفيتها أحد من الصحابة، كما هو حالهم رضي الله عنهم في آيات وأحاديث الصفات، وجعلنا بفضله ومنه على هديهم، فقد جاء في الحديث عند الترمذي[15] في السنن /وغيره والحديث صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، قال: أحسبه في المنام فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى)).
ويستدل البعض على إمكان رؤية الله في الدنيا أن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام عندما كلمه ربه تكليما طمع في خير آخر فقال: كما في محكم التنـزيل {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} [الأعراف 143] بأن الرؤية لو لم تكن ممكنة لما طلبها موسى عليه الصلاة والسلام.
قلت: سبحان الله وهل كان موسى يعلم كل شيء ؟!! ألم يطلب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من ربه أن يستغفر لأمه فلم يجبه ربه تبارك وتعالى، فخرج على أصحابه باكياً!!
ألم يطلب نوح عليه الصلاة والسلام النجاة لابنه ولم يجب.
وأورد القاضي عياض في ترتيـب المدارك[16] عن ابن نافع وأشهـب قالا: وأحدهم يزيد على الآخر يا أبا عبد الله ـ أي الإمام مالك ـ {وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة} ينظرون إلى الله؟ قال: نعم بأعينهم هاتين فقلت له : فإن قوماً يقولون لا ينظر إلى الله إن ناظرة بمعنى منتظرة إلى الثواب قال: كذبوا بل ينظر إلى الله أما سمعت قول موسى عليه السلام {رب أرني أنظر إليك} [سورة الأعراف: (143)] أفترى موسى سأل ربه محالاً ؟ فقال {لن تراني} أي في الدنيا لأنها دار فناء ولا ينظر ما يبقى بما يفنى فإذا صاروا إلى دار البقاء نظروا بما يبقى وقال الله {كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} [سورة المطففين: (15)]
علماً أن القول بأن سؤال الرؤية من موسى عليه الصلاة والسلام دليل على إمكان الرؤية من أبشع التشبيه الذي سمعت به، فمسألة الممكن من عدمه تكون صورتها مثلاً أن أطلب منك أن تمشي على رأسك فتقول عني أنني أهذي لأنني أطلب منك طلباً لا تستطيع هذا في حقنا نحن العبيد، أما الله القادر على كل شيء سبحانه وتعالى، فلا نقول عن الطلب منه بأن هذا ممكن وهذا لا، لأنه عز وجل وكما يدين موسى عليه الصلاة والسلام، بأنه تبارك وتعالى قادر على كل شيء، فأين إفراد الخالق عن صفات المخلوق أيها الناس؟
وأما أن يتعرض الإنسان لرؤية مفادها أنه يرى شيئاً ويخطر له أنه الله، فهذا من المعروف المشهور الذي يصدقه الواقع، والذين لا ينبني عليه أي شيء إطلاقاً، والحمد لله رب العالمين.
[1] (الرسالة القشيرية: 360)
[2] ص / 7ـ424/.
[3] رواه الإمام مسلم في صحيحه رقم /7305/
[4] ورواه ابن ماجه في سننه /4077/ وابن أبي عاصم في السنة /429/
[5] ورواه النسائي في الكبرى /7764/ وابن أبي عاصم في السنة /428/
[6] وروى ابن أبي عاصم في السنة /430/
[7] فتح الباري /8ـ782/
[8] روى الترمذي /3279/
[9] مسلم في صحيحه /436/
[10] صحيح مسلم /438/
[11] رواه مسلم في صحيحه /432/
[12] رواه مسلم في صحيحه /434/
[13] مسلم في صحيحه /442/
[14] روى مسلم في صحيحه /444/
[15] الترمذي 3233/
[16] ترتيـب المدارك (2ـ42)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.