الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ المعرفة هي طريق المحبة الصادقة لله عز وجل؛ ومع ذلك فإن المعرفة تحتاج دومًا إلى تذكير يتجاوب معه الفكر والعاطفة، هذا التذكير الدائم من شأنه أن يبذر بذور المحبة في القلب، ويشكِّل قاعدته في المشاعر والوجدان.
ومع أهمية التذكير الدائم تأتي الأعمال الصالحة ذات الصلة بموضوع المحبة؛ لتكون بمثابة الماء الذي يسقي بذور المعرفة بالله الودود، فتنمو شجرتها ويرتفع بنيانها، لتكون النتيجة هي استحواذ حب الله على أكبر قدر من مشاعر الحب داخل القلب، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66].
وسائل التذكير بمعارف المحبة:
ووسائل التذكير بمعارف المحبة ومظاهرها تتركز في أمرين عظيمين: كتاب الله المقروء، وكتاب الله المنظور.
القرآن ودوره في إنشاء الإيمان والتذكير بمعارف المحبة:
القرآن هو أفضل وسيلة للتعريف بالله عز وجل والتذكير الدائم بمظاهر حبه لنا، وأفضل وسيلة كذلك لتحويل هذه المعرفة إلى إيمان يستحوذ على مشاعر الحب داخل القلب ويوجهها للمولى سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: ((منْ سرَّه أن يحبَّ اللهَ ورسولَه، فليقرأ في المصحفِ))([1]).
نعم، هناك وسائل أخرى تقوم بالتذكير بهذه المظاهر، تقف على رأسها السُنة، والتي تُعتبر شارحة للقرآن مؤكدة لما فيه، ومع ذلك يبقى القرآن الوسيلة العظيمة لدوام التذكير، وتقرير الحقائق، وإنشاء الإيمان، فهو دائم التعريف بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته ومظاهر حبه لعباده.
ومع هذا التعريف نجد التكرار للمعنى الواحد بأساليب مختلفة؛ ليرسخ مدلوله في العقل الباطن للإنسان، فيشكل جزءًا من يقينه، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} [الإسراء: 41]، وفي عرضه للمعاني نجد أن العرض يخاطب العقل فيقنعه والمشاعر فيستثيرها، مما يحوِّل الحقائق والقناعات الفكرية إلى إيمانٍ راسخ في القلب.
ومما يساعد القارئ على انتفاعه بالقرآن هو التزامه بما أمره الله به من تدبُّرٍ وتفهم لما يقرؤه من آيات، وكذلك ترتيله لها، فالفهم والتدبر يخاطبان العقل فيقتنع، والترتيل يهزُّ المشاعر، فيمتزج بذلك الفكر مع العاطفة ليثمر يقينًا في العقل، وإيمانًا في القلب، وهذا لا يتوافر في أي كتاب آخر على وجه الأرض، {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]، يقول ابن رجب: (سماعُ القرآنِ يُنْبِتُ القرآنَ في القلبِ كما يُنْبِتُ الماءُ البقلَ)([2]).
القرآن الكريم هو أفضل وسيلة لغرس محبة الله في القلب، وإن إنشاء الإيمان في القلب من خلال القرآن لن يتم إلا إذا كان هدفنا حين نقرؤه أن نفهم ما نقرؤه - ولو بصورة إجمالية - وأن نجتهد في التأثر به من خلال الترتيل والتباكي مع القراءة، مع عدم إغفال أمر مهم أيضًا وهو كثرة قراءته، وإعطاؤه الأولوية الأولى في حياتنا؛ قال حذيفة بن اليمان: (اقرءوا القرآنَ بحُزنٍ، ولا تجفوا عنه، وتعاهدُوه ورَتِّلُوه ترتيلًا)([3]).
وبالإضافة إلى ذلك علينا ونحن نعيش في أجواء محبة الله عز وجل، وبعد أن تعرَّفنا على كثير من مظاهرها أن نتتبع هذه المظاهر ونحن نقرأ القرآن، فإن هذا من شأنه - إذا ما داومنا عليه - أن يؤكد ويرسخ مدلولها في اليقين، ويزيد الإيمان في القلب ويحوله إلى مقامٍ ثابت.
نعم؛ علينا ألَّا نقف عند كل آية لنستخرج منها ما يدل على حب الله لعباده، حتى لا تتحول القراءة إلى عملية عقلية فكرية فقط، فالمطلوب - كما قيل سالفًا - هو مزج الفكر بالعاطفة، وتجاوب العقل مع القلب، وهذا يستدعي استمرارية وانسيابية القراءة ليتسرب تأثيرها شيئًا فشيئًا إلى المشاعر، حتى تصل في النهاية لمرحلة الانفعال والتأثر.
معنى ذلك أنه من المناسب أن نبحث عن مظاهر المحبة في القرآن بصورة إجمالية، لا تؤثِّر بالسلب على تدبرنا العام للآيات، ولا تجعلنا نقف عند كلِّ كلمة، ولعل ما قيل في الصفحات السابقة من شأنه أن يستثير مشاعرنا، وينشئ داخلنا حالة شعورية لمحبة الله عز وجل، فإذا ما استثمرنا وجود هذه الحالة ودخلنا بها إلى القرآن؛ فسنجد ما يؤكدها من آيات، وسنفاجأ وكأن محور القرآن الرئيس يدور حول هذا الموضوع.
إن القرآن هو أفضل وسيلة لتنمية حب الله في القلب والوصول لمرحلة الأنس به والشوق إليه سبحانه؛ يقول ابن رجب - رحمه الله -: (ومما يستجلب المحبة: تلاوةُ القرآنِ بالتدبرِ والتفكرِ، لا سيما الآيات المتضمنة للأسماءِ والصفاتِ والأفعالِ الباهرات، ومحبة ذلك يستوجبُ به العبدُ محبةَ اللهِ، ومحبة اللهِ له)([4])، فتتحقق {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
فالأمر واضح، والطريق مُعَبَّدٌ لتنمية حب الله في القلب، وكيف لا والقرآن بين أيدينا ولا يوجد أي شيء يحول بيننا وبينه، فكلما اهتاجت لدينا مشاعرُ الشوق إلى الله وأردنا أن نسكنها، وكلما أردنا أن نأنس بالله ونزداد حبًّا له وتعلقًا به؛ فلنهرع إلى المصحف، نناجيه ونتحدث إليه - سبحانه - من خلال قراءتنا وتجاوبنا مع خطابه لنا.
فإن قلتَ: ولكن مشاعر الشوق إلى الله لا تهتاج عليَّ كثيرًا!!
الحل أيضًا في مداومة قراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، لتزداد مساحة حب الله في قلوبنا شيئًا فشيئًا، فيثمر ذلك شوقًا مستمرًا إليه، يجعل صاحبه في عجلة دائمة للاتصال بالله من خلال قراءة القرآن في الصلاة وخارج الصلاة، وكذلك في الدعاء والذكر والمناجاة: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
وخلاصة القول: إن أفضل شيء وأحب شيء نتقرب به إلى الله: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم والترتيل والصوت الحزين – التباكي -؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما تقرَّبَ العبادُ إلى اللهِ بشيءٍ أحب إليه مما خَرجَ منه))([5])، وكلما ازداد حبُّ المرء لربه، ازداد حبًّا لكتابه ولكثرة قراءته، قال أبو سعيد الخراز: (من أحبَّ اللهَ أحبَّ كلامَ اللهِ، ولم يشبعْ من تلاوتِه)([6]).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.