إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛
فإنه لدى استعراضنا لبعض نصوص الكتاب والسنة، نجد أن الشكر لله تعالى من أهم السمات التي اتصف بها خواص أوليائه، من الأنبياء والمرسلين والصالحين من عباد الله، وإليكم بعض النماذج من شكر بعض الأنبياء:
يقول الله عن عبده الشكور نوح عليه السلام: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، يقول الله تعالى لذرية من حمله مع نوح مهيجًا ومنبهًا على المنة، أي يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم[1]، فـ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، فجعله كالعلة لما قبله إيذانا بكون الشكر من أعظم أسباب الخير ومن أفضل الطاعات، وحثًا لذريته على شكر الله سبحانه.[2]
وقد وصف الباري خليله بالشكر في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]، بعد ما ذكر الله جملة من الصفات الحميدة التي اتصف بها خليله إبراهيم ختمها بوصفه بأنه كان شاكرًا لأنعمه عليه، وقد (أخبر عنه سبحانه بأنه أمة، أي قدوة يؤتم به في الخير، وانه قانت لله، والقانت هو المطيع المقيم على طاعته، والحنيف هو المقبل على الله المعرض عما سواه، ثم ختم هذه الصفات بأنه شاكرًا لأنعمه، فجعل الشكر غاية خليله)[3].
وكان سليمان عليه السلام يحمد الله عز وجل أن أنعم عليه ووالديه نعمًا كثيرة، ومنها النبوة، والحكمة، ومعرفة منطق الطير وغيرها من النعم، ولذلك كان من دعائه: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي من تعليمي منطق الطير والحيوان، وعلى والدي بالإسلام لك والإيمان بك، ووفقني أن أعمل عملًا تحبه وترضاه، فإذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك، والرفيق الأعلى من أوليائك[4].
وهذا الوصف الذي وصف به هؤلاء الأنبياء من أعظم ما يوصف به العبد، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد ويجتهد في العبادة حتى ينال هذا الوصف، ولم تعرف البشرية في تاريخها الطويل كله من كان يتجه إلى الله تبارك وتعالى بالثناء الجميل والحمد الوفير والشكر الجزيل مثل ما كان يفعله المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يشكر ربه ويثني عليه حتى تتورم قدماه، وكانت عائشة رضي الله عنها تشفق عليه وتسأله؛ أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول لها: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"[5].
والحديث يطول عن شكره عليه الصلاة والسلام خاصة، وشكر الأنبياء من قبله عامة، وقد كان هذا هو منهج الخلفاء الراشدين، يعرف ذلك كل من يرجع إلى سيرتهم الحميدة وكذلك كان شأن بقية الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
بيان متعلق الشكر، وأنه النعم:
سبق لنا في تقرير الفرق بين الحمد والشكر أن قلنا أن بينهما عمومًا وخصوصًا وقلنا أن الحمد موجبه المحاسن والإحسان، أما الشكر فموجبه هو الإحسان فقط، مما يبين أن متعلق الشكر هو النعم الكثيرة التي من الله بها على عباده، وعلى مقدمة هذه النعم لا شك هدايته للخلق إلى الإيمان به والإسلام له، ثم باقي النعم المتوالية التي يمن الله بها على من يشاء.
فتذكر هذه النعم تحرك النفوس نحو محبة الله[6] والاعتراف بربوبيته وألوهيته، مما يوجب على المخلوق شكر الخالق والإيمان به، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"إنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن الله خالقه، وليس له إلهًا وربًا كما ذكر، وذكر إحسان الله إليه، فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية الله وتوحيده وإنعامه عليه، فيقتضي الإيمان والشكر"[7].
فالتذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره، ومنه ذكر نعم الله على العبيد التي يليه شكره عليها الذي هو الغاية المقصودة من ورائها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (والتذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]
أي قامت الحجة عليكم بالنذير الذي جاءكم، وبتعميركم عمرًا يتسع للتذكر.
وقد أمر سبحانه بذكر نعمه في غير موضع، كقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 231]
والمطلوب بذكرها شكرها، كما قال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 150 - 152][8].
والناظر في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين له أن الله أمر بتذكر أنواع النعم التي أنعم بها عليهم يكون ذلك مقتضيًا لشكره وعبادته، ومن هذه النصوص قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]
يذكر الله بدء خلق الإنسان وأنه أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، فركب فيه هذه الحواس لتكون وسيلة للإدراك، وخص هذه الثلاثة لأنها أمهات ما ينال به العلم، وكل ذلك لأجل أن يشكروا الله باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله.
فينظر الواحد في نعمة واحدة من هذه النعم الثلاث، وهي مثلا نعمة الإبصار، سوءا بواسطة حاسة البصر الخارجية التي هي العين، أو الحاسة الداخلية التي هي العين، أو الحاسة الداخلية التي هي القلب، فهذه النعمة التي يتمتع كل إنسان سوي، لو قام العبد عمره كله في شكرها لم يتمكن من ذلك، فكيف بالثلاث التي قال فيها شيخ الإسلام: (ثم هذه الأعضاء الثلاثة هي أمهات ما ينال به العلم ويدرك، أعني العلم الذي يمتاز به البشر عن سائر الحيوانات دون ما يشاركها فيه، من الشم والذوق واللمس، وهنا يدرك به ما حيب ويكره، وما يميز به من يحسن إليه ومن يسيء إليه إلى غير ذلك"[9].
وقال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]، وهنا يذكر الله نعمة أخرى هي من أعظم النعم التي تدعو إلى شكر الله والقيام بعبوديته، وهي نعمة الليل التي جعلها ليسكن فيها العباد ويستريحوا، ونعمة النهار التي جعلها ليشتغلوا فيه بما يعود إليهم بالنفع العاجل والآجل.
وهذه النعم التي مر ذكرها يشترك فيها المؤمن والكافر، لكن الله خص المسلمين ببعض النعم خالصة لهم دون غيرهم، ومن هذه النعم ما قال تعالى في شأن المهاجرين: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].
أي يقول تعالى ممتنًا على عباده في نصرهم بعد الذلة، وتكثيرهم بعد القلة، وإغنائهم بعد العيلة، اذكروا حالكم قبل ذلك حين كنتم في مكة مستضعفين مقهورين تحت حكم غيركم، تخافون أن ينال منكم كل لحظة، فمن الله عليكم أن جعل لكم بلدًا تأوون إليه وهي المدينة، وانتصر من أعدائكم على أيديكم، وغنمتم من أموالهم ما كنتم به أغنياء، فكل هذا أن يتذكروها دائمًا، ويشكروا الله عليها أبدًا[10].
فالحاصل أن هذه الآيات وأمثالها تذكرنا أن متعلق الشكر هو النعم، وأن نعمة علينا كثيرة، وأن علينا أن نشكر الله فيها، ونزداد من العمل بما يرضيه عنا.
الهوامش:
[1] تفسير ابن كثير، (ص 3/37)
[2] فتح البيان، ص 7/354
[3] عدة الصابرين، ص 223
[4] تفسير ابن كثير (3/474)
[5] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل حتى ترم قدماه، رقم الحديث: 1130، ص 2/50.
[6] مجموع الفتاوى، ص 1/96.
[7] المرجع السابق، ص 16/179
[8] نفس المصدر، ص 16/188- 189
[9] مجموع الفتاوى، ص 9/309-310
[10] تفسير السعدي، ص 319
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.