الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ إن محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عظيمٌ أمرُها، كبيرٌ فضلُها، جليلٌ شأنُها، وإنها إذا تمكنت من قلب العبد المؤمن الصادق وعشعشت في سويداء فؤاده أَضْفَت عليه حلل السعادة والهناء، والرضا وسعة الصدر.
وإن العبد المؤمن إذا أحبَّ ربه عز وجل ورسوله أعظم الحب، وقام بما تقتضيه وتستلزمه هذه المحبة العظيمة تجاه خالقه ورسوله، من تحقيق العبودية لله تعالى والمتابعة لرسوله، والولاء والحب لأهل الإيمان، والبراءة والمعاداة لأهل الشرك والعصيان، وإذا أخذنا بأسباب وعلامات هذه المحبة، فعَمِلَ بها وتَخَلَّقَ بخلق أهلها، وتحلَّى بما يدل على صدقه فيها؛ إنه إذا قام بذلك كله، أثمرت محبته ثمارًا لا تنفذ، وآتت أكلها في قلبه وحياته وآخرته بشكل لا يوصف من اللذة والهناء والفوز، بل إنه لا فوز ولا سعادة فوق فوزه وسعادته بهذه الثمار، ولا ألذَّ ولا أطيبَ ولا أهنأَ على قلبه من الحصول على هذه الثمرات العظيمة التي نالها بصدق حبِّه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
كلما تعرَّف العبدُ على مظاهر حب ربه له، وسيطرت هذه المعرفةُ على مشاعره؛ انعكس ذلك على علاقته به سبحانه، فيزداد له حبًّا وشوقًا، وعندما يملأ هذا الحبُّ القلبَ ستكون له بلاشك ثمارٌ عظيمةٌ تظهر في سلوك العبد وأعماله، هذه الثمار من الصعب الحصول عليها من أي شجرة أخرى غير شجرة الحب، فالحب يُخْرِجُ من القلب معانٍ للعبودية لا يخرجها غيرُه.
يقول ابن تيمية: (فمن لا يحبُّ الشيءَ لا يمكن أن يُحِبَّ التقربَ إليه، إذ التقربُ إليه وسيلةٌ، ومحبةُ الوسيلةِ تبعٌ لمحبةِ المقصودِ([1])، وإذا كانت المحبةُ أصلَ كلِّ عملٍ ديني، فالخوفُ والرجاءُ وغيرهما يستلزمُ المحبةَ ويرجع إليها، فإن الراجي الطامعُ إنما يطمعُ فيما يحبُّه لا فيما يبغضُه، والخائفُ يفرُّ من المخوف لينالَ المحبةَ؛ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57])([2]).
ولهذا؛ اتفقت الأُمَّتَان من قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى، أن أعظم الوصايا: أن تحبَّ اللهَ بقلبِك وعقلِك وقصدِك، وهذه هي حقيقةُ الحنيفية ملة إبراهيم، التي هي أصلُ شريعةِ التوراةِ والإنجيلِ والقرآنِ([3]).
لذلك أدعو نفسي، وأدعوك أخي القارئ، إلى الاهتمام بغرس بذور محبة الله في القلب، وتعهدها بالأعمال الصالحة، حتى يصير الله عز وجل أحب إلينا من كل شيء، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة: 165]، عند ذلك سنجد الثمار الحلوة أمامنا دون عناء أو مشقة.
وتتلخص هذه الثمرات في الآتي:
-الرضا بالقضاء:
عندما يتعرَّف الواحد منا على مدى حب ربه له وحرصه عليه؛ فإن هذا من شأنه أن يدفعه دومًا للرضى بقضائه، وكيف لا وقد أيقن أن ربه لا يريد له إلَّا الخير، وأنه ما خلقه ليعذبه، بل خلقه بيده، وكرَّمه على سائر خلقه ليُدْخِلَه الجنة، دار النعيم الأبدي، ومن ثمَّ فإن كل قضاء يقضيه له ما هو إلا خطوة يمهِّد له من خلالها طريقه إلى تلك الدار.
فالأقدار المؤلمة والبلايا ما هي إلا أدوات تذكيرٍ يُذَكِّرُ اللهُ بها عباده بحقيقة وجودهم في الدنيا، وأنها ليست دار مقام بل دار امتحان، وأن عليهم الرجوع إليه قبل فوات الأوان: {وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 48]، {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21].
وهي كذلك أدوات تطهير من أثر الذنوب والغفلات التي يقع فيها العبد؛ ((ما يصيبُ المسلمَ من نصبٍ، ولا وصبٍ، ولا همٍّ، ولا حزنٍ، ولا أذى، ولا غمٍّ، حتى الشوكة يُشَاكُها، إلا كَفَّرَ اللهُ بها من خطاياه))([4])، فجميع الأقدار التي يُقدَّرها اللهُ عز وجل لعباده تحمل في طياتها الخير الحقيقي لهم، وإن بدت غير ذلك.
فعلى سبيل المثال: الرزق، فالله عز وجل يبسط الرزقَ للبعض، ويضيقه على البعض، لعلمه سبحانه بما يصلح عباده؛ ألم يقل سبحانه: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، فمنعه الرزق الوفير عن بعض الناس ما هو إلا صورة من صور رحمته وشفقته بهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ تعالى ليحمي عبدَه المؤمن من الدنيا، وهو يحبُّه، كما تحمون مريضَكم الطعامَ والشرابَ تخافون عليه))([5]).
هذه المعاني العظيمة لا يمكن تذكرها واستحضارها بصورة دائمة، وممارسة مقتضاها في الحياة العملية، إلا إذا تمكَّن حبُّ الله من القلب وهيمن عليه، فمفتاح: {رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} هو: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
جاء في الأثر أن الله تعالى يقول: ((معشر المتوجهين إليَّ بحبِّي، ما ضرَّكم ما فاتَكم من الدنيا إذا كنتُ لكم حظًّا، وما ضرَّكم من عاداكم إذا كنتُ لكم سلمًا))([6])، وكان عامر بن عبد قيس يقول: (أحببتُ اللهَ حبًّا سَهَّلَ عليَّ كل مصيبةٍ، ورضاني بكلِّ قضيةٍ، فما أبالي مع حبِّي إياه ما أصبحتُ عليه وما أمسيتُ)([7])، نعم أخي، فإننا إن أحببنا اللهَ حبًّا صادقًا؛ أحببنا كل ما يَرِدُ علينا منه سبحانه.
(لما قدم سعدُ بن أبي وقاص إلى مكة، وقد كان كُفَّ بصره، جاءه الناس يُهْرَعُون إليه، كلُّ واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة، فأتاه عبد الله بن أبي السائب فقال له: يا عم، أنت تدعو للناسِ فلو دعوتَ لنفسِك فردَّ اللهُ عليك بصرَك؟ فتبسَّم وقال: يا بنيَّ، قضاءُ اللهِ سبحانه عندي أحسنُ من بصري.
وكان عمران بن الحصين قد استسقى بطنه، فبقي مُلقى على ظهرِه ثلاثين سنة، لا يقومُ ولا يقعدُ، قد نقب له في سريرٍ من جريد كان عليه موضعٌ لقضاءِ حاجتِه، فدخل عليه مطّرف وأخوه العلاء، فجعل يبكي لما يراه من حالِه، فقال: لِمَ تبكي؟ قال: لأني أراكَ على هذه الحالةِ العظيمةِ، قال: لا تَبْكِ، فإن أحَبَّه إلى اللهِ أحبُّه إليَّ)([8]).
- الرجاء والطمع فيما عند الله:
فكلما اشتد الحبُّ اشتد الرجاءُ في الله وحسنُ الظن فيه ألا يُلْقِي حبيبَه في النار، فالمحب لا يعذب حبيبه، كما جاء الرد الإلهي على اليهود عندما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} [المائدة: 18]، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((واللهِ، لا يُلْقِي اللهُ حبيبَه في النارِ))([9]).
وقد مَرِضَ أعرابيٌّ فقيل له: (إنك تموت، قال: وأين أذهب؟ قالوا: إلى اللهِ، قال: فما كراهتى أن أذهبَ إلى من لا أرى الخيرَ إلا منه)([10])، وكان سفيان الثوري يقول: (ما أُحبُّ أن حسابي جُعِلَ إلى والديَّ، ربِّي خيرٌ لي من والديَّ)([11]).
وقال ابن المبارك: (أتيتُ سفيانَ الثوري عشيةَ عرفة، وهو جاثٍ على ركبتِه وعيناه تهملان فبكيتُ، فالتفتَ إليَّ فقال: ما شأنُك؟ فقلتُ: من أسوأِ أهلِ الجمعِ حالًا؟ قال: الذي يظنُّ أنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ له)([12]).
-الحياء من الله:
فالمحبُّ الصادق في حبِّه لله عز وجل يستحي أن يراه حبيبه في وضع مشين، أو مكان لا يحب أن يراه فيه، فإذا ما وقع في معصية أو تقصير سارع بالاعتذار إليه واسترضائه بشتى الطرق، بل إن أي بلاء يتعرض إليه يجعله قلقًا بأن يكون هذا البلاء مظهرًا من مظاهر لوم اللهِ له وغضبه عليه، لذلك تجده حينئذٍ يهرع إلى مولاه يسترضيه ويتذلل إليه ويستغفره، ويطلب منه العفو والصفح.
ويتجلى هذا الأمر جيدًا في دعاء رسولنا صلى الله عليه وسلم بعد أحداث الطائف، وما تعرَّض فيه من استهزاء وتضييق وإيذاء، فكان مما قاله لربه: ((... إن لم يكنْ بكَ غضبٌ عليَّ فلا أبالي، لكن عافيتك هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِك الذي أشرقتْ له الظلماتُ، وصَلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ، أن ينزلَ بي غضبُك أو يحلَّ عليَّ سخطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك))([13]).
وفي هذا المعنى يقول ابن رجب: (إن محبةَ اللهِ إذا صَدَقَتْ أَوْجَبَتْ محبةَ طاعتِه وامتثالها، وبغض معصيتِه واجتنابها، وقد يقعُ المحبُّ أحيانًا في تفريطٍ في بعضِ المأمورات، وارتكاب بعضِ المحظورات، ثم يرجعُ إلى نفسِه بالملامةِ، وينزع عن ذلك، ويتداركه بالتوبةِ)([14]).
- الشفقة على الخلق:
من الثمار العظيمة للحب الصادق تلك الشفقة التي يجدها المحبُّ في قلبه تجاه الناس جميعًا بخاصة العصاة منهم، وكيف لا وقد علم أنه ما من أحد من البشر إلا وفيه نفخة علوية كرَّمه الله بها على سائر خلقه، وأن الذي يرضيه - سبحانه - هو عودة الجميع إليه ودخولهم الجنة، لذلك تجد هذا المحب شفيقًا على الخلق، حريصًا على دعوتهم، لسان حاله يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59]، يستخدم في ذلك كل الطرق والوسائل الممكنة، ولا يرتاح له بال حتى يُعيد الشاردين إلى حظيرة العبودية لربهم.
ومن الأمثلة العظيمة التي تبين تلك الشفقة على العصاة ما فعله مؤمنُ آل فرعون مع قومه، تأمل أقواله الذي جاء ذكرها في سورة غافر: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38]، {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر: 30]، {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41]، {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر: 42].
هذه الثمرة العظيمة من ثمار المحبة من شأنها أن تجعلنا نقوم بتعديل خطابنا الدعوي، فنستوعب الجميع ونبشِّرهم ونطمئِنهم تجاه ربهم، قبل تخويفهم وترهيبهم.
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.