الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد لَقَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمتَه أنواعًا من صيغ الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على ما تقدَّم ذكر بعضها([1])، ولم يَرِد في شيءٍ منها لفظُ "السيادة"، وكذلك لم يُنقل عن أحدٍ من السلف الصالح ما يدل على ثبوت هذه الزيادة، لذا فإن القول باستحبابه([2]) إنما مستنده مجرد الاستحسان، وهو خلافٌ لتعليم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الكامل لأمته حين سُئل عن كيفية الصلاة عليه فأجاب آمرًا بقوله: ((قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ ... إلخ)).
لذا أنكر المحققون من أهل العلم من الشافعية وغيرهم هذه الزيادة، وأنها مُحدثة غير مقبولة، وممن أنكرها أحدُ كبار علماء الشافعية الجامعين بين الحديث والفقه، ألا وهو الحافظ ابن حجر العسقلاني، وقد سُئل - رحمه الله - عن هذه الزيادة، فأفتى بعدم مشروعية وصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وهي فتوى مهمة جرى - رحمه الله - فيها على طريق السلف في الاتباع وترك الابتداع، وإليك نص الفتوى:
قال الحافظ محمد بن محمد الغرابيلي([3]) - وكان ملازمًا لابن حجر - قال رحمه الله: (وسُئِلَ - أي: الحافظ ابن حجر أمتع الله بحياته - عن صفةِ الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصلاةِ أو خارج الصلاةِ، سواء قيل بوجوبِها أو ندبيتها، هل يُشترط فيها أن يصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادةِ، كأن يقول مثلًا: "اللهمَّ صلَّ على سيدنا محمد، أو على سيدِ الخلقِ، أو على سيدِ ولدِ آدم"، أو يقتصر على قوله: "اللهمَّ صلِّ على محمدٍ"؟ وأيهما أفضل؛ الإتيان بلفظ السيادةِ لكونِها صفةً ثابتةً له صلى الله عليه وسلم، أو عدم الإتيان بها، لعدم ورودِ ذلك في الآثار؟
فأجاب - رحمه الله -: نعم، اتباعُ الألفاظِ المأثورةِ أرجحُ، ولا يُقال: لعلَّه تركَ ذلك تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم، كما لم يكن يقول عند ذكره صلى الله عليه وسلم: "صلى الله عليه وسلم"، وأمتُه مندوبةٌ إلى أنْ تقولَ ذلك كلما ذُكِرَ، لأنا نقول: لو كانَ ذلك راجحًا لجاءَ عن الصحابةُ، ثم عن التابعين، ولم نقفْ في شيءٍ من الآثارِ عن أحدٍ من الصحابةِ ولا التابعين لهم قالَ ذلك، مع كثرةِ ما وردَ عنهم من ذلك.
وهذا الإمامُ الشافعيُّ - أعلى اللهُ درجتَه - وهو منْ أكثرِ الناسِ تعظيمًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال في خطبة كتابه الذي هو عمدةُ أهلِ مذهبِه: (اللهمَّ صلِّ على محمدٍ ...) إلى آخرِ ما أدَّاه إليه اجتهادُه، وهو قوله: (كلما ذكرَه الذاكرون، وكلما غفلَ عن ذكرِه الغافلون)([4])، وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه ((سبحانَ اللهِ عددَ خلقِه))، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأمِّ المؤمنين - ورآها قد أكثرت التسبيحَ وأطالته -: ((لقدْ قلتُ بعدك كلمات لو وُزِنَتْ بما قلتِ لوزنَتْهُن)) فذكر ذلك([5])، وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء.
وقد عقدَ القاضي عياض بابًا في صفةِ الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في كتاب "الشفا"([6])، ونقل فيها آثارًا مرفوعةً عن جماعةٍ من الصحابةِ والتابعين، ليس في شيءٍ منها عن أحدٍ من الصحابةِ وغيرِهم لفظُ: "سيدنا".
وقد ذكرَ الشافعيةُ أن رجلًا لو حلفَ ليصلينَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أفضلَ الصلاةِ، فطريقُ البرِّ أنْ يصليَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (اللهمَّ صلِّ على محمدٍ كلما ذكرَه الذاكرون، وسها عن ذكرِه الغافلون)، وقال النووي: (والصوابُ الذي ينبغي الجزم به أن يُقال: ((اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما صليتَ على إبراهيم ...)) الحديث([7])، وقد تعقَّبه جماعةٌُ من المتأخرين بأنه ليس في الكيفيتين المذكورتين ما يدلُّ على ثبوتِ الأفضليةِ فيهما من حيثُ النقل، وأما من حيثُ المعنى فالأفضليةُ ظاهرةٌ في الأولِ.
والمسألةُ مشهورةٌ في كتبِ الفقهِ، والغرضُ منها أن كلَّ من ذُكر هذه المسألةِ منَ الفقهاءِ قاطبةً لم يقعْ في كلامِ أحدٍ منهم: "سيدنا"، ولو كانت هذه الزيادةُ مندوبةً ما خفيتْ عليهم كلِّهم حتى أغفلوها، والخيرُ كلُّه في الاتباع، والله أعلم)([8]).
قال الشيخُ الألباني - رحمه الله - بعد أن نقلَ كلامَ الحافظ السابق: (قلتُ: وما ذهبَ إليه الحافظُ ابنُ حجرٍ - رحمه الله - من عدمِ مشروعيةِ تسويدِه صلى الله عليه وسلم في الصلاةِ عليه اتباعًا للأمرِ الكريمِ، وهو الذي عليه الحنفيةُ، هو الذي ينبغي التمسكُ به، لأنه الدليلُ الصادقُ على حبِّه صلى الله عليه وسلم؛ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، ولذلك قال الإمام النووي في "الروضة"([9]): (وأكملُ الصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ ...)([10])، فلم يذكر فيه صفةَ السيادةِ)([11]).
([1]) لمزيد من معرفة الصيغ الشرعية في الصلاة على خير البرية r، انظر كتاب: صفة صلاة النبي r، الألباني، ص(164-167).
([2]) شاع القول باستحبابها لدى الفقهاء المتأخرين وخاصة الشافعية، انظر المصدر السابق، ص(172)، ونهاية المحتاج، شمس الدين الرملي، (1/530).
([3]) هو الحافظ تاج الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن مسلم الكركي ابن الغرابيلي، سبط العماد الكركري، وُلد سنة (796هـ) بالقاهرة، حيث كان جده لأمه حاكمًا، ثم نقله أبوه إلى الكرك، وتُوفي سنة (835هـ)، قال عنه ابن حجر: (سمع الكثيرَ ببلده، ورحل إلى الشام والقاهرة، فلازمني، وكان الأكابر يتمنون رؤيته والاجتماع به؛ لما يبلغهم من جميل أوصافه، فيمتنع"، انظر: إنباء الغمر بأنباء العمر، ابن حجر، (1/589).
([8]) نقل هذه الفتوى بتمامها الشيخ الألباني في: "صفة صلاة النبي r"، ص(172-175)، وقال: (وهو من محفوظات المكتبة الظاهرية).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.