بدعة الذكر بالاسم المفرد مُظْهَرًا ومُضْمَرًا.

بدعة الذكر بالاسم المفرد مُظْهَرًا ومُضْمَرًا.






الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ من الأذكار المحرفة المبتدعة: الذكر بالاسم المفرد المفرد، سواء كان مُظهَرًا كقولهم: " الله، الله، الله"، أو مُضْمَرًا كقولهم: "هو، هو، هو، أو ها، ها، ها" ... ونحو ذلك.

وبدعية هذا النوع من الأذكار وبطلانه أمر واضح لا يحتاج إلى كثير من البيان، بل هو ذريعة إلى ضلالات لا يعلم مداها إلا الله، ويكفي في ذلك أن الذكر بهذه الصفة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من السلف الصالح، وإنما أحدثها مشايخ الطرق الصوفية الذين استحوذ عليهم الشيطانُ، وغلب عليهم الجهلُ.

فقد سُئل الإمام العز ابن عبد السلام عن الرجل يذكر فيقول: "الله، الله"، ويقتصر على ذلك، هل هو مثل قوله: "سبحان الله والحمد لله والله أكبر" وما أشبه ذلك، أم لا؟ وإذا لم يكن بمثابته فهل هو بدعة لم تُنقل عن السلف أم لا؟

فأجاب - رحمه الله - بقوله: (هذه بدعةٌ لم تُنقلْ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من السلفِ، وإنما يفعلُه الجهلةُ، والذكرُ المشروعُ كلُّه لابد أن يكونَ جملةً فعليةً أو اسميةً، وهو مأخوذٌ من الكتابِ والسنةِ، وأذكارِ الأنبياء، والخيرُ كلُّه في اتباعِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم واتباعِ السلفِ الصالحين دون الأغبياءِ من الجاهلين)([1]).

وقال الشيخ علي محفوظ في الردِّ على تجويز الصوفية الذكر به "هو وها وهي"، قال: (والجوابُ: أنها دعوى لا دليلَ عليها، فإن "ها" و" هي" من الضمائر المؤنثة، فلا يجوزُ الذكرُ بها، إذ لم ترِدْ لا في كتابٍ ولا في سنةٍ، وما وقعَ في كتبِ المخذولين لا يُلتفتُ إليه، ويجوزُ الذكرُ بـ"هو" لأنه من أسماءِ اللهِ المُضمرة، وقد ورد كتابًا وسنةً)([2]).

قلتُ: قول الشيخ - عفا الله عنه -: (ويجوز الذكر بـ"هو" ... إلخ) فليس بصحيح، فهو كسابقيه في المنع، لأنه لم يرِدْ في الكتاب ولا في السنة الذكرُ بالضمير المفرد "هو"، ولا عمل به أحدٌ من الصحابة y ولا أحدٌ من الأئمة المعوَّلِ عليهم في أمور الدين علمًا وعملاً وسلوكًا، مع أن الشيخ نفسه قد بيَّن أن الذكر الشرعي الصحيح هو الذي وردَ في الكتاب والسنة، فقال: (أما الذكرُ الذي يحبُّه اللهُ ورسولُه وأصفياءُ الأمةِ ويؤجرُ عليه فاعلُه، فهو ما وردَ به كتابُ اللهِ وسنةُ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وضبطَه الأئمةُ الذين يعوَّلُ عليهم)([3])، فهذا يدل على تناقض الشيخ - عفا الله عنه - في هذه المسألة، والله أعلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (والذكرُ بالاسمِ المفردِ مُظهَرًا ومُضمَرًا بدعةٌ في الشرعِ، وخطأٌ في القولِ واللغةِ، فإن الاسمَ المجرد ليس هو كلامًا، لا إيمانًا ولا كفرًا)([4]).

وقال أيضًا: (وأما الاقتصارُ على الاسمِ المفردِ - مُظهَرًا أو مُضمَرًا - فلا أصلَ له، فضلًا عن أن يكونَ من ذكرِ الخاصةِ والعارفين، بل هو وسيلةٌ إلى أنواعٍ من البدعِ والضلالات، وذريعةٌ إلى تصورات أحوالٍ فاسدةٍ من أحوال أهلِ الإلحادِ وأهلِ الاتحادِ)([5]).

وقال الشيخ أحمد السوركتي - رحمه الله - في تفسيره لسورة الفاتحة: (فالصراطُ المستقيمُ في الذكر والدعاء ومنه الصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم والاستغفارُ أن يكونَ الذكرُ تامَّ اللفظِ والمعنى، أي أنه يجب أن يكون بجملةٍ مفيدةٍ كقوله: لا إله إلا الله، وقوله: سبحان الله العظيم ...

ولا يجوزُ الذكرُ بتكريرِ الاسمِ المفردِ إلا إذا كانَ في قوةِ الجملةِ، كـ"ارحم، واغفر" مع التوجه إلى الله تعالى لعدم ورودِه عن الشارعِ، وهو ليس له مقصودٌ معقولٌ في الطلبِ ولا في الاعترافِ، وأن يكونَ بأسمائِه المعروفةِ الواردةِ في كتابِ اللهِ أو على لسانِ رسلِه، كـ"يا أرحم الراحمين ارحمني، ويا غفار اغفر لي، ويا سلام سلم"؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].

ويجب أن يكونَ الذكرُ موضوعًا في الموضعِ الذي وضعَه الشارعُ فيه، من غيرِ تغييرٍ في هيئتِه، وأن تمثل العبودية والتضرع والخشوع والخضوع في الهيئةِ والصوتِ، والتوجه في جميعِ الحالات، وأن يكون خاليًا من التصنعِ المشينِ والتكليفِ المنافي لطبيعةِ المقامِ؛ قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] ... وقال صلى الله عليه وسلم: ((أَرْبِعُوا على أنفسِكُم؛ فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا وهو معكم)) ...).

إلى أن قال: (... إذًا؛ الذين يراءون بكشكشة المسابح في الطرق والمحافل، الذين يصيحون في الحارات بأصواتهم المنكرة، ينبحون كالكلاب وينهقون نهيق الحمير بأسماء الله المفردة، الخالية من الخضوع والخشوع، والمغنون أصوات الذكرِ بألحان الغناء، والذين يرفعون أصواتهم ببعض ألفاظ الذكر في جنحِ الليلِ لتسميعِ الناسِ ونيل الشهرةِ، ويُقْلِقُون راحةَ الجيران، فهؤلاء جميعهم لا حظَّ لهم في الذكر المأمور به ...)([6]).

وعلى الرغم من ذلك كله إلا أن الصوفية قد حاولوا الاستدلال على هذا الذكر المبتدع - أعني: الذكر بالاسم المفرد - ببعض النصوص من الكتاب والسنة؛ فمن الكتاب قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]، فزعموا أن معنى {قُلِ اللَّهُ}: اذكر الله بهذا الاسم المفرد!!

والجواب عنه أن يُقال:

إن هذا الاستدلال باطل، بل الآية نفسها تردُّ عليها، وأن المعنى الذي فهمه هؤلاء القوم لم يقلْ به أحدٌ من أهل العلم والتحقيق من المفسرين وغيرهم، وهاك بعض أقوال أعلام المفسرين في تفسير الآية:

قال إمام المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: (وأما قوله: {قُلِ اللَّهُ} فإنه أمرٌ من الله - جل ثناؤه - نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجيبَ استفهامه هؤلاء المشركين عما أمرَه باستفهامِهم عنه، بقولِه: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} بقيله "الله"، كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 63]، فأمره باستفهام المشركين عن ذلك، كما أمره باستفهامهم إذ قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، عمن أنزل الكتابَ الذي جاءَ به موسى نورًا وهدى للناسِ، ثم أمره بالإجابةِ عنه هنالك بقيله: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64])([7]).

  وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (ولو تدبروا ما قبلَ هذا تبيَّنَ مراد الآية، فإنه سبحانه قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]، أي: قلْ الله أنزلَ الكتابَ الذي جاءَ به موسى، فهذا كلامٌ تامٌّ وجملةٌ اسميةٌ مركبةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، حُذِفَ الخبرُ منها لدلالةِ السؤالِ على الجوابِ، وهذا قياسٌ مطرد في مثلِ هذا في كلامِ العرب، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25])([8]).

وأما السنة؛ فقد استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعةُ حتى لا يُقال في الأرض: الله، الله))([9])، قالوا: فتكريرُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم مرتين يدل على أنه ذكرٌ على الانفراد([10]).

وهذا الاستدلال ظاهر البطلان لما يلي([11]):

أولًا: إنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر اسمًا مفردًا في ذكره ولا مرةً واحدة، ولا عرفه أحدٌ من أصحابه، وليس أحد من سلف الأمة فهمَ من الحديث هذا الذي تقول به الصوفية، ولاريب أن عمله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده هو خير ما يفسر به كلامه، وقد عُلم أن أذكارهم لم تكن إلا على الجملة التامة المفيدة للتوحيد وإخلاص العبودية لله تعالى.

ثانيًا: أن الحديث ورد في رويات أخرى مفسرًا بلفظ: ((لا تقوم الساعةُ حتى لا يُقال في الأرضِ: لا إله إلا الله))([12])، فإذا تقرر أن الحديث ورد بإسنادٍ واحد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "الله الله"، وبلفظ "لا إله إلا الله"؛ تعين الرجوع إلى أقواله الأخرى وأفعاله المروية عنه، وبهذا الرجوع نجد أنه صلى الله عليه وسلم علَّم المسلمين أن يذكروا الله بكلمة "لا إله إلا الله" في غير ما حديث، بل وصرَّح بأنه أفضل الأذكار، وكذلك علَّمهم صيغ أخرى كثيرة، وليس في صيغة منها تكرار لفظ الجلالة قط، ولا فعله أحد من أصحابه أبدًا.

إذا تقرر هذا عُلم أن معنى الحديث: أن القيامة لا تقوم وعلى وجه الأرض مؤمن، أو أن القيامة إنما تقوم على شرار الخلق، كما جاء في الرواية الأخرى([13])([14]).

وبهذا يظهر أن استدلال الصوفية بالنصوص السابقة باطل، وأن إيرادهم تلك النصوص إنما مجرد تلبيس وتلاعب بالعقول، وإلا فكثيرٌ من أذكارهم لم يحاولوا البحث عن دليلٍ لها لاستحالة وجوده بداهة([15])، والله أعلم.

 



([1]) نقله الحطاب في مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، (6/290).

([2]) الإبداع في مضار الابتداع، علي محفوظ، ص(296).

([3]) المصدر السابق، ص(292).

([4]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (10/396)، وانظر أيضًا ص(556، 557) من نفس المجلد.

([5]) المصدر السابق، (1/233).

([6]) انظر: مجلة المرشد، العدد (28)، ربيع الثاني 1358هـ، ص(5-6)، نقلًا عن: جهود الشيخ أحمد السوركتي في الدعوة إلى الله في إندونيسيا، رسالة الماجستير، ص(266-267).

([7]) تفسير ابن جرير، (11/528)، تحقيق/أحمد شاكر.

([8]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (10/559)، وانظر أيضًا: (10/226).

([9]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب ذهاب الإيمان في آخر الزمان، (146)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

([10]) انظر: تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، محمد أحمد لوح، (1/285).

([11]) انظر: المصدر السابق، (1/285-286).

([12]) رواه أحمد في مسنده، (13833) بإسناده عن أنس، وهو إسناد مسلم في رواية "الله الله"، وابن حبان في صحيحه، (6809) بالإسناد نفسه، وأبو نعيم في الحلية، (3/305)، وقال: (هذا حديث صحيح ثابت من أنس بن مالك)، والحاكم في المستدرك، (4/495)، وقال: (صحيح على شرط مسلم)، وقال الحافظ ابن حجر: (سنده قوي)، فتح الباري، (13/85).

([13]) رواه مسلم، كتاب الفتن، باب قرب الساعة، (2949)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

([14]) انظر: شرح صحيح مسلم، النووي، (2/133، 178).

([15]) انظر: تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، محمد أحمد لوح، (1/286).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
بدعة الذكر بالاسم المفرد مُظْهَرًا ومُضْمَرًا.doc doc
بدعة الذكر بالاسم المفرد مُظْهَرًا ومُضْمَرًا.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى