إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فمن الصلوات المبتدعة وهي ركعتان يصليهما العبد سرًا، يقصد بهما دفع النفاق، وممن ذكرها – مقرًا لاستحبابها – بعض فقهاء الحنفية في كتبهم كابن عابدين في "حاشيته"[1] وغيره؛ نقلا عن "شرعة الإسلام"[2] ولم يذكر لها زمام ولا خطام، إنما هو الاستحسان ليس سواه!
ثم إن شؤم النفاق لعظيم، وضرره على العبد وخيم، لا يكفي لدفعه ركعتان يركعهما العبد! بل هو الجهاد والاجتهاد، كيف والمتلبس بالنفاق في الدرك الأسفل من النار، ناله من العذاب ما لم ينل الكفار.. ذمه الله في كتابه في كثير من الآيات، بل نزلت في ذمه وأهله سور كاملات؛ فالفاضحة كشفت سوأتهم، وسورة (المنافقون) أبانت عوارهم وتوعدت أمثالهم، وفي صدر سورة البقرة ثلاث عشرة آية نزلت فيهم، بينما نزل في الكافرين الخلص آيتان، وما ذاك إلا لعظيم خطر النفاق وأهله!
قال البيضاوي رحمه الله في تفسير آيات سورة البقرة وهو يتكلم عن المنافقين: هم أخبث الكفرة، وأبغضهم إلى الله، ولذلك أطال في بيان خبثهم وجهلهم واستهزائهم.[3]
فحري بالعبد أن يحذر تلك الخصلة الذميمة حتى لا يدخل تحت ألوية أهلها، وأن يتعاهد نفسه خوفًا عليها، كما خافه الصحابة رضوان الله عليهم على أنفسهم من أن يقعوا في شراكه، واستمع إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عندما أتى حذيفة بن اليمان – وهو أمين سر النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبره بأسماء المنافقين في المدينة – أتاه عمر وجلًا خائفًا يسأله بالله ويترجاه: يا حذيفة نشدتك بالله، هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ قال: لا، ولا أزكي بعدك أحدًا[4].
ويقول ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه"[5]. بل قال الحسن البصري: "ما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن"[6].
والطريق لدفعه عن النفس لا يحتاج لإحداث ما لم تأت به الشريعة من الأفعال أو الأقوال، بل إن في شرع الله ما يغني عن تلك المحدثات مما هو طريق لدفعه.
ومن ذلك على سبيل الاختصار ما يلي:
أولًا: الإكثار من قراءة القرآن بتدبر وفهم، فإن ذلك يقي بإذن الله من الوقوع في النفاق؛ إذ من المعروف أن من أبرز صفات المنافقين عدم تدبرهم للقرآن، بدليل قول الله عنهم: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقد ذكر الله هاتين الآيتين في معرض الحديث عن المنافقين وصفاتهم.
ثانيًا: كثرة ذكر الله، فذكر الله مطهرة للقلب مرضاة للرب، وعمارة القلب بالذكر تنقية من الأدران، وتعقده على الإخلاص؛ ليصبح أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة، قال الله تعالى في سورة النساء عن المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، فعلم أن الإكثار من الذكر لا يصدر إلا عن لسان مؤمن صادق بعيد عن النفاق وأهله.
ثالثًا: الحرص على أداء الصلاة وحضورها مع الجماعة، إذ هو شعار الإخلاص في القلب والبعد عن النفاق، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار"[7].
رابعًا: كثرة الاستغفار والتوبة إلى الله؛ إذ من صفات المنافقين الإعراض عن الاستغفار والتوبة، يقول الله عز وجل عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5]
خامسًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو من علامات الإيمان وزيادته، كما ذكر الله ذلك بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم ما يدفع به العبد عن نفسه النفاق، فإن تخاذل عن ذلك فقد ابتعد عن الإيمان وقرب من النفاق بقدر تخاذله، إذ المنافق لا تمييز لديه بين المعروف والمنكر، بل انتكست فطرته فأصبح المعروف لديه منكرًا، والمنكر معروفًا، قال الله عز وجل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]، نسأل الله السلامة والعافية من النفاق وأهله.
الهوامش:
[1] حاشية ابن عابدين، 2/29.
[2] انظر شرح شرعة الإسلام، ص 137.
[3] تفسير البيضاوي، 1/157- 158.
[4] أخرجه البزار، (2885). وإسناده صحيح.
[5] أخرجه البخاري قبل حديث (48)، تعليقًا بصيغة الجزم.
[6] أخرجه البخاري قبل حديث (48) تعليقًا، ووصله أحمد في "الإيمان".
[7] أخرجه البخاري (644، 2420)، ومسلم (651) واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.