الدلائل على توحيد الربوبية: دليل التمانع

الدلائل على توحيد الربوبية: دليل التمانع





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛
دليل التمانع من أدلة المتكلمين وعلى رأسهم المعتزلة استدلوا به على إثبات الخالق جل وعلا، وتبعهم في ذلك الأشاعرة واستدلوا عليه بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22] وهذا الاستدلال غير مسلم لهم جملة وتفصيلًا، وذلك لأنه مبني عندهم على أن غاية ما جاء به الرسل هو توحيد الربوبية، ولذا أنزلوا الآية عليه، والصحيح خلاف ذلك، لأن العرب الذين بعث لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بالربوبية مؤمنين بها وكذا سائر الأمم التي بعثت لهم الأنبياء، ولذا كان كلهم مجمعين على الدعوة إلى توحيد العبادة لا الربوبية، وهذا بين ظاهر لكل من سبر سيرهم وقرأ القرآن.[1]
ودليل التمانع مبني على أنه يمتنع شرعًا وعقلًا وجود فاعلين تامي القدرة والإرادة في مفعول واحد هما عليه تامًا القدرة والإرادة؛ لأن من كان تام القدرة والإرادة والاستقلال بالفعل وجب وجود االمفعول له وحده، وإذا كان الآخر كذلك وجب وجود المفعول له وحده، وإذ قدر اثنان مريدان لأمر من الأمور فلابد من أمرين:
إما أن ينفرد كل واحد منهما بخلقه وإيجاده، هذا ممتنع عقلًا، لما يعلم يقينًا من ترابط هذا الكون وانتظام أمره مما يدل على أن له ربًا واحدًا وموجدًا واحدًا لا شريك له ولا مثيل ولا نظير.
وإما أن يعلو بعضهم على بعض فلا يرضى كل منهما بوجود الشريك في الخلق، وهذا أيضًا ممتنع في حق الله؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لفسدت السماوات والأرض لما سيقع من الشريكين من التنافس والاقتتال على الملك، قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29][2]، وقد ورد معنى هذا الدليل في كتاب الله قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
قال ابن القيم رحمه الله: (فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل وحينئذ فلا يرضى بشركة الإله الآخر معه بل إن قدر على قهره وتفرده بالإلهية دونه فعل وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب به كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضا بممالكهم.
إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر والعلو عليه فلا بد من أحد أمور ثلاثة:
إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
وإما أن يعلو بعضهم على بعض.
وإما أن يكون كلهم تحت قهر إله واحد وملك واحد يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه ويمتنع من حكمهم عليه ولا يمتنعون من حكمه عليهم فيكون وحده هو الإله الحق وهم العبيد المربوبون المقهورون)[3].
فتبين بهذا أنه لا يمكن أن يجتمع فاعلان تامي القدرة والإرادة في مفعول واحد؛ لأنه يستلزم وجود النقيضين، فعند اختلافهما مثلًا في أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يرد أحدهما إحياءه والآخر إماتته، فإما أن يحصل مرادهما؛ أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع لأنه يستلزم الجمع بين المتناقضين، والثاني أيضًا ممتنع لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، كما أنه أيضًا يستلزم عجز كل منهما والعاجز لا يكون إلهًا، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجز لا يصلح للإلهية، وإن كانت الآية سيقت للدلالة على عجز المعبودات من دون الله جل شأنه وتقرير وجوب عبادته وحده لكن يستدل بها على ذكر.[4]
فإذا كان الاستقلال بالفعل والغنى عن الغير من خصائص رب العالمين، كان التنزه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين، فليس في المخلوقات ما هو مستقل بشيء من المفعولات، وليس فيها ما هو وحده علة تامة، وليس فيها ما هو مستغنيًا عن الشريك في شيء من المفعولات، بل لا يكون في العالم شيء موجود عن بعض الأسباب إلا ويشاركه سبب آخر له[5]، وهذا الدليل من أدلة المتكلمين التي يستدلون بها على وجود الرب جل وعلا، وهو دليل صحيح عقلًا.[6]
وهناك أدلة استدل بها الفلاسفة والمتكلمون على إثبات وجود الله عز وجل إلا أنها لا تخلو من مأخذ، وقد نقدها كثير من أهل السنة لكونها لا تخلو من خلط الحق بالباطل[7] إلا أن ما في القرآن من الدلائل على وجود الله ووجوب عبادته مما تقدم آنفًا غنية عن غيره.

الهوامش:

[1] انظر: شرح الطحاوية، ص 53.

[2] المطالب العالية للفخر الرازي، ص2/135، منهاج السنة، ص3/304- 305.

[3] الصواعق المرسلة، ص2/463- 464، وانظر شرح الطحاوية، ص1/38- 39، درء التعارض، ص 9/355- 359.

[4] انظر: الفتاوى، ص20/174- 180، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص87.

[5] الفتاوى، ص20/ 181، وانظر: منهاج السنة النبوية، ص 2/182، 3/304- 334.

[6] انظر: درء التعارض، ص9/354.

[7] انظر: درء التعارض، ص3/72، وما بعدها، ومما ينبغي التنبيه عليه أن شيخ الإسلام رحمه الله إنما يذكر مثل هذه الأدلة لينقدها، لا ليقررها ويستدل بها.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الدلائل على توحيد الربوبية: دليل التمانع.doc doc
الدلائل على توحيد الربوبية: دليل التمانع.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى