ألفاظ توحيد الربوبية: (الخلق)

ألفاظ توحيد الربوبية: (الخلق)





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛
1 - معنى الخلق في اللغة:
يقول ابن فارس: "الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقدير الشيء، والآخر ملاسة الشيء. فأما الأول فقولهم: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته.. وقال زهير[1]:
ولأنت تفري ماخلقت وبعــض القوم يخلق ثم لا يفري[2].. والخَلْق خلق الكذب، وهو اختلاقه واختراعه وتقديره في النفس.. وأما الأصل الثاني: فصخرة خلقاء أي ملساء"[3].
والخليقة الخَلْق، والجمع الخلائق، والخِلقة الفطرة[4]. "والخالق الصانع"[5]، و"خلقه الله خلقاً أوجده"[6].
والخَلْق في كلام العرب على وجهين: أحدهما الإنشاء على مثال أبدعه، والآخر التقدير. وخلق الله الشيء يخلقه خلقا أحدثه بعد أن لم يكن، والخلق يكون المصدر ويكون المخلوق[7].
"والخلق في كلام العرب ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه"[8].
فالخلق في اللغة يعني التقدير، والإنشاء، والإيجاد، والإبداع، وقد يراد به المخلوق.
2 - معنى الخلق في الشرع:
الخلق في الشرع هو صفة فعلية قائمة بذات الله - تعالى - متعلقة بقدرته ومشيئته، وتعني إبداع الكائنات وإنشاءها من العدم، وفق تقدير الله - تعالى - لها. كما قد يطلق الخلق على المخلوق كما في قوله - تعالى -: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان - 11] .
وقد ورد لفظ الخلق في آيات كثيرة من كتاب الله - تعالى -، فورد بمعنى الإبداع والتقدير[9] نحو قوله - تعالى -: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف - 54] ، وقوله - تعالى -: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف - 51] ، وقوله - تعالى -: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان - 28] ، كما ورد لفظ خلق في السنة بمعنى قضى وقدر، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لما خلق الله الخلق كتب في كتابه - وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش - إن رحمتي تغلب غضبي"[10]، وفي رواية "لما قضى الله الخلق"[11]، ومعنى خلق في الرواية الأولى، وقضى في الرواية الثانية، هو: "قدّر"، أي لما فرغ من تقدير الخلق، لأنه قال في رواية أخرى: "إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق"[12].
يقول البخاري - رحمه الله -: "باب ماجاء في تخليق السموات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب - تبارك وتعالى - وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وهو الخالق المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون"[13].وعلق على هذا الكلام ابن القيم - رحمه الله - بقوله: "فصرح إمام السنة أن صفة التخليق هي فعل الرب وأمره، وأنه خالق بفعله وكلامه"[14].
وقال ابن حجر - رحمه الله - معلقاً أيضا على كلام البخاري - رحمه الله -: "وسياق المصنف يقتضي التفرقة بين الفعل، وما ينشأ عن الفعل، فالأول من صفة الفاعل، والباري غير مخلوق فصفاته غير مخلوقة، وأما مفعوله وهو ما ينشأ عن فعله فهو مخلوق، ومن ثم عقبه بقوله: وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكون"[15].
وقال البخاري - رحمه الله - في كتابه خلق أفعال العباد: "واختلف الناس في الفاعل والمفعول والفعل، فقالت القدرية: الأفاعيل كلها من البشر، ليست من الله، وقالت الجبرية: الأفاعيل كلها من الله، وقالت الجهمية: الفعل والمفعول واحد، ولذلك قالوا لـ "كن" مخلوق، وقال أهل العلم: التخليق فعل الله وأفاعيلنا مخلوقة..ففعل الله، صفة الله، والمفعول غيره من الخلق"[16].
وقال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - وهو يبين صفات الله الفعلية: "..وخالقاً بتخليقه والتخليق صفة في الأزل"[17]. ويُعرف الإمام ابن مندة - رحمه الله - الخالق بقوله: "والخالق هو المقدر الفاعل الصانع، وهو الباري المصور فهذه صفة قدرته. والخلق منه على ضروب: منه خلق بيده ويخلق إذا شاء فقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص - 75] ، ومنه ما خلق بمشيئته وكلامه، ويخلق إذا شاء، ولم يزل موصوفاً بالخالق الباري المصور قبل الخلق، بمعنى أنه يخلق ويصور"[18].
وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله - اللفظ المقصود بهذا المبحث فقال: "لفظ الخلق المراد به الفعل الذي يسمى المصدر، كما يقال خلق يخلق خلقاً كقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان - 28] ، وقوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر - 6] ، وقوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف - 51] وليس الكلام في لفظ خلق المراد به المخلوق ومنه قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان - 11] "[19]. وعرف - رحمه الله - لفظ الخلق بقوله: "الخلق هو إبداع الكائنات من العدم "[20]، وقال: "والخلق يجمع معنى الإبداع ومعنى التقدير"[21].
وقال - رحمه الله -: "ولفظ الخلق المذكور في القرآن يتضمن معنيين، كلاهما يناقض قولهم[22]؛ يتضمن الإبداع والإنشاء المعروف، ويتضمن التقدير"[23]. وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:"إن الخلق هو الإيجاد"[24].
وقال الإمام ابن تيمية مبيناً قيام صفات الفعل في ذات الله: "وإذا كان الخلق فعله والمخلوق مفعوله، وقد خلق الخلق بمشيئته، دل على أن الخلق فعل يحصل بمشيئته، ويمتنع قيامه بغيره، فدل على أن أفعاله قائمة بذاته، مع كونها حاصلة بمشيئته وقدرته"[25].
وشرح الإمام ابن القيم قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة - 21] بقوله: "ثم قال: الذي خلقكم، فنبه بهذا أيضاً على وجوب عبادته وحده، وهو كونه أخرجهم من العدم إلى الوجود، وأنشأهم، واخترعهم وحده بلا شريك"[26].
ويتبين مما سبق أن الخلق - كما ذكرت سابقاً - صفة فعلية، قائمة بذات الله - تعالى -، متعلقة بقدرته ومشيئته، وتعني إبداع الكائنات وإنشاءها من العدم، وفق تقدير الله - تعالى - لها.

الهوامش:

[1] هو زهير بن أبي سلمى، ذكره محمد بن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء ضمن الطبقة الأولى من فحول شعراء الجاهلية. انظر: طبقات فحول الشعراء 1/63.

[2] ديوان زهير ص56، بلفظ "فلأنت تفري.."وانظر: ديوان الأدب للفارابي 2/123. والفري الشق، خلقت الأديم ثم فريته، إذا أعلمت عليه علامات المقاطع ثم قطعته. انظر: العين 8/280.

[3] معجم مقاييس اللغة 2/213 - 214، وانظر: الصحاح 4/1470 - 1471، العين 4/151، لسان العرب 10/85 - 89.

[4]  انظر: الصحاح 4/1471، العين 4/151، لسان العرب 10/86.

[5] العين 4/151.

[6] المُغَرِّب في ترتيب المعرب لأبي الفتح المطرزي ص153.

[7]  انظر: لسان العرب 10/85.

[8] المرجع السابق 10/85.

[9] انظر: الصفدية 1/240، بغية المرتاد ص42، الصواعق المرسلة4/136.

[10] أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله - تعالى - {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران - 28، 30] 4/384، ح 7404، وبنحوه مسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه 4/2107، ح 2751.

[11] جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات - 171] 4/395، ح 7453، ومسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه 4/2108ح 2751.

[12] جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ*فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج - 21 - 22] 4/417، ح 7554، وانظر: شرح كتاب التوحيد للشيخ الدكتور عبد الله الغنيمان 2/210.

[13]  صحيح البخاري مع الفتح 13/447.

[14]  شفاء العليل ص 155.

[15] فتح الباري 13 /448.

[16] خلق أفعال العباد ص188.

[17] شرح الفقه الأكبر ص38.

[18]  كتاب التوحيد لابن مندة 2/76.

[19] بيان تلبيس الجهمية 1/546.

[20] مجموع الفتاوى 6/357.

[21] الصفدية 1/240.

[22] أي يناقض قول الفلاسفة.

[23]  بغية المرتاد ص42، وانظر: الصواعق المرسلة4/1361، شرح الطحاوية 1/124.

[24]  شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد العثيمين 1/22.

[25]  مجموع الفتاوى 6/230.

[26]  بدائع الفوائد 4/132.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
ألفاظ توحيد الربوبية: (الخلق).doc doc
ألفاظ توحيد الربوبية: (الخلق).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى