الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛[1]
تقدم أن العبادة قد فطروا على معرفة الله جل ذكره، وأن معرفته تدعوهم إلى التوجه إليه ومن ثم الإذعان والتوكل عليه، وتبين أن هذا الأمر راسخ في نفوس البشر منذ الولادة، ولذا فإن العبد إذا استمرت فطرته سليمة فإنه يعرف ربه من جراء ما جبل وفطر عليه، كما تقدم أنه يستدل بمخلوقاته سبحانه على وجوده، فالاستدلال به وبأفعاله على وجوده أولى وأحرى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إن ما سوى الله من الموجودات والأعيان والصفات يستدل بها عليه، سواء كانت حية أو لم تكن، بل ويستدل بالمعدوم؛ فلأن يستدل بالحي القيوم أولى وأحرى، وقد ورد في الدعاء المأثور عن الإمام أحمد الذي علمه لبعض أصحابه: (يا دليل الحيارى دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين)[2].
وهذا يقتضي أن تسميته دليلًا باعتبار أنه دال لعباده، لا بمجرد أنه يستدل به، كما قد يستدل بما لا يقصد الدلالة والهداية من الأعيان والأقوال والأفعال، ولهذا يذكر عن بعضهم قوله: (عرفت الأشياء بربي، ولم أعرف ربي بالأشياء)، وقال بعضهم: (هو الدليل على كل شيء، وإن كان كل شيء – لئلا يعذبني – عليه دليلًا).
وقيل لابن عباس رضي الله عنه بم عرفت ربك؟ قال: من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس، خارجًا عن المنهاج، ظاعنًا في الاعوجاج، عرفته بما عرف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه[3]، فأخبر أن معرفة الله حصلت بمعرفة الله وهو نور الإيمان)[4]، وسئل عبد الله بن المبارك رحمه الله (بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على عرشه بائن من خلقه...)[5].
والاستدلال بالله تعالى على فعله وخلقه وإيجاده معلوم سمعًا وعقلًا، وبذلك يستدل على وجود الله، وأنه حي قيوم، لم يزل موصوفًا بأنه يتكلم بما شاء، وأنه فعال لما يشاء، وهذا قد قال العلماء الأكابر من أهل السنة والحديث، ونقلوه عن السلف والأئمة، وهو قول طوائف كثيرة من أهل الكلام.[6]
قال ابن القيم رحمه الله: (... دلالة الخالق على المخلوق، والفعال على الفعل، والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية، والفطر الصحيحة: أظهر من العكس، فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه، إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه، ولا ربيب أنهما طريقان صحيحان كل منهما حق، والقرآن مشتمل عليهما.
فأما الاستدلال بالصعنة فكثير، وأما الاستدلال بالصانع فله شأنه، وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10] أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية – قدس الله روحه – يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود الليل والنهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما)[7].
ومن ذلك استدلال عامر بن الأكوع رضي الله عنه بذلك على هدايته بقوله:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا[8]
وتمثل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق.[9]
(فإذا كان الحق الحي القيوم الذي هو رب كل شيء ومليكه ومؤصل كل أصل ومسبب كل سبب وعلة: هو الدليل والبرهان والأول والأصل الذي يستدل به العبد، ويفزع إليه، ويرد جميع الأواخر إليه في العلم: كان ذلك سبيل الهدي وطريقه، وكان المتوكل عليه في علمه وعمله القائل إنه لا حول ولا قوة إلا بالله مؤيدًا منصورًا، فجماع الأمر: أن الله هو الهادي وهو النصير{ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31] وكل علم فلابد له من هداية، وكل عمل فلابد له من قوة، والواجب أن يكون الرب أصل كل هداية وعلم، وأصل كل نصرة وقوة، فلا يهتدي العبد إلا به ولا يستنصر إلا إياه.
والعبد لما كان مخلوقًا مربوبًا مفطورًا مصنوعًا عاد في علمه وعمله إلى خالقه وفاطره، وربه وصانعه فصار ذلك ترتيبًا مطابقًا للحق، وتأليفًا موافقًا للحقيقة، إذ بناء الفرع على الأصل، وتقديم الأصل على الفرع: هو الحق فهذه الطريقة الصحيحة في معرفة العبد لربه، الموافقة لفطرة الله وخلقه ولكتابه وسنة رسوله)[10]، خلافًا للطريقة الفلسفية الكلامية، فإنهم ابتدأوا بنفوسهم فجعلوها هي الأصل الذي يفرعون عليه، والأساس الذي يبنون عليه، وجعلوا العلوم الحسية والبديهية ونحوها هي الأصل الذي لا يحصل العلم إلا به، ثم زعموا أنهم إنما يدركون بذلك الأمور الحسابية والأخلاق وغيرها من الأمور القريبة منهم، ثم بنوا على هذه الأصول التي وضعوها سائر العلوم.[11]
ومما يستدل به أيضًا قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا } [الفتح: 12]، حيث يستدل بها على أن الله يفعل برسوله كل أمر محمود يؤيده وينصره به.
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر أنواع المعرفة بالله: (وأعلم هؤلاء معرفة من عرف من كلامه، فإنه يعرف ربا قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال، منزه عن المثال، بريء من النقائص والعيوب، له كل اسم حسن وكل وصف كمال، فعال لما يريد، فوق كل شيء ومع كل شيء، وقادر على كل شيء، ومقيم لكل شيء، آمر ناه متكلم بكلماته الدينية والكونية، أكبر من كل شيء، وأجمل من كل شيء، أرحم الراحمين، وأقدر القادرين، وأحكم الحاكمين، فالقرآن أنزل لتعريف عباده به، وبصراطه الموصل إليه، وبحال السالكين بعد الوصول إليه)[12]، والله تعالى أعلم.
الهوامش:
الهوامش:
[1] كتاب الفوائد لابن القيم، ص318 وما بعدها.
[2] مجموع الفتاوى، ص2/17-18، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وقد أنكر طائفة من أهل الكلام: كالقاضي أبي بكر وأبي الوفاء بن عقيل أن يكون من أسمائه الدليل؛ لأنهم ظنوا أن الدليل هو الدلالة التي يستدل بها، والصواب ما عليه الجمهور، لأن الدليل في الأصل هو المعرف للمدلول، ولو كان الدليل ما يستدل به، فالعبد يستدل به أيضًا فهو دليل من الوجهين جميعًا)، الفتاوى، ص22/483- 484.
[3] الفتاوى، ص2/3.
[4] الفتاوى، ص2/18.
[5] درء التعارض، ص2/57.
[6] درء تعارض العقل والنقل، ص2/3-5.
[7] مدارج السالكين، ص1/71.
[8] رواه البخاري (ح6331)، ومسلم (ح 1807).
[9] رواه البخاري، (6620)
[10] الفتاوى، ص2/19- 20 بتصرف.
[11] الفتاوى، ص2/20- 21.
[12] الفوائد لابن القيم، ص1/199.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.