الدلائل على توحيد الربوبية: دليل الضرورة والاضطرار

الدلائل على توحيد الربوبية: دليل الضرورة والاضطرار





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛
معنى الضرورة والاضطرار في اللغة:
قال الخليل: (الضرورة اسم لمصدر الاضطرار، تقول حملتني الضرورة على كذا، وقد اضطر فلان إلى كذا وكذا)[1]، والاضطرار الاحتياج إلى الشيء، وقد اضطره إليه أمر، والاسم الضرة، والضرورة كالضرة[2]، والضرورة اسم من الاضطرار.[3]
معنى الضرورة والاضطرار في الاصطلاح:
قال الباقلاني في تعريفه: (فالضروري ما لزم أنفس الخلق، لزومًا لا يمكنهم دفعه، والشك في معلومة)[4]، وحده بعض المعتزلة بأنه: (العلم الذي يحصل فينا، لا من قبلنا، ولا يمكننا نفيه عن النفس بوجه من الوجوه).
ويقول شيخ الإسلام: (حد العلم الضروري، وهو الذي يلزم نفس العبد لزومًا لا يمكنه معه دفعه عن نفسه)[5].
الفرق بين الضرورة والاضطرار:
قال في الكشاف: (الضرورة: الحالة المحوجة إلى اللجإ، والاضطرار: افتعال منها، يقال: اضطره إلى كذا، والفاعل والمفعول: مضطر.
والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجإ والتضرع إلى الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو المجهود، وعن السدي: الذي لا حول له ولا قوة، وقيل: المذنب إذا استغفر.
فإن قلت: قد عم المضطرين بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62].[6]
فالمضطر هو ذو الضرورة أي الحالة المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول، والاضطرار: افتعال من الضرورة لا من الضر، وتقديره: أنه نالته الضرورة فطاوعها، وليس له فعل مجرد وإنما يقال: اضطره كذا إلى كذا.
وبناء على ما تقدم فإن الضرورة: هي حاجة ملحة لابد للإنسان منها، أما الاضطرار: فهو حاجة وقتية تنشأ من محنة أو ضائقة.
دليل الضرورة على معرفة الله:
دليل الضرورة يشمل أمرين مهمين:
أحدهما: ما قد جبل عليه الإنسان من معرفة الله وحاجته إليه من طلب اللجوء إليه والاستعانة به والتوكل عليه، والتوجه بالدعاء إليه، وهذه أمور ضرورية يجدها العبد في نفسه وقلبه ولا يجد السبيل إلى دفعها، بل كل الخلق يعلمون وجوده وقدرته وتصرفه بهذا الكون وتدبيره له، إلا من شذ ولا عبرة بالشاذ، بل إن العبد يجد في قرارة نفسه الرغبة الملحة إلى التعرف على ربه وملء قلبه بالأنس به والشوق إليه والتلذذ بذكره وعبادته والتعرف على صفاته، فإذا لم يحصل له ذلك بقي قلبه فارغًا معذبًا بفراق غذائه الروحي الذي هو أحوج إليه من الطعام والشراب.[7]
الأمر الثاني: أن هذا هو العلم الضروري الذي يلزم المخلوق لزومًا لا يمكنه الانفكاك عنه، وهذا هو حال أهل الإيمان والمعرفة بالله عز وجل، من أئمة المسلمين وسلف الأمة وحملة الحجة، فإنهم يخبرون بما عندهم من اليقين والطمأنينة والعلم الضروري بالله جل وعز، كما في الحكاية المحفوظة عن نجم الدين الكبرى لما دخل عليه متكلمان، أحدهما أبو عبد الله الرازي والآخر من متكلمي المعتزلة وسألاه عن علم اليقين الذي يجده العبد في قلبه من معرفة الله جل ذكره وضرورة التوجه إليه، فقالا له: بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقال نعم، أنا أعلم علم اليقين، فقالا: كيف يمكن ذلك ونحن من أول النهار إلى الساعة نتناظر، فلم يقدر أحدنا أن يقيم على الآخر دليلًا؟ فقال ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين، فقال: صف لنا علم اليقين، فقال: علم اليقين عندنا واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها، فجعلا يقولان: واردات ترد على النفوس تعجزر النفوس عن ردها؟! ويستحسنان هذا الجواب.[8]
ومثلها تلك الحكاية المذكورة في قول أبي جعفر الهمداني لأبي المعالي الجويني لما أخذ يقول على المنبر: كان الله ولا عرش، فقال يا أستاذ: دعنا من ذكر العرش وأخبرنا عن الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط (يا الله) إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، لا تلتفت يمنة ولا يسرة فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيني الهمداني حيرني الهمداني ونزل.[9]
دليل الاضطرار:
الأصل في هذا الدليل قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: (فهذه المذكورات التي هي إجابة المضطر إذا دعا، وكشف السوء وجعل الناس خلفاء في الأرض من خصائص ربوبيته جل وعلا، ولذا قال بعدها: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.
فتأمل قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} مع قوله: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} تعلم أن إجابة المضطرين إذا التجؤوا ودعوا وكشف السوء عن المكروبين، لا فرق في كونه من خصائص الربوبية، بينه وبين خلق السماوات والأرض وإنزال الماء وإنبات النبات، ونصب الجبال وإجراء الأنهار، لأنه جل وعلا ذكر الجميع بنسق واحد في سياق واحد، وأتبع جميعه بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}
فمن صرف شيئًا من ذلك لغير الله توجه إليه الإنكار السماوي الذي هو في ضمن قوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} فلا فرق البتة بين تلك المذكورات في كونها كلها من خصائص الربوبية)[10].
وقد تقدم أن الاضطرار حاجة وقتية تنشأ من محنة أو ضائقة، ولذا فكثير ما تنكشف الحجب عن الفطرة فتزول عنها الغشاوة التي رانت عليها عندما تصاب بمصاب أليم، أو تقع في مأزق لا تجد فيه من البشر عونًا، وتفقد أسباب النجاة، فكم من ملحد عرف ربه وآب إليه بسبب بلاء أصابه، وكم من مشرك أخلص دينه لله لضر نزل به، وكم من فاجر أناب إلى ربه لخطب ألم به.
أقسام الناس فيه: والناس فيه على ثلاثة أقسام:
قسم لا يلتجئون إليه ولا يدعونه، وهؤلاء هم شر الأقسام.
وقسم يلتجئون إليه ويدعونه، لكنهم عند كشف البلاء يشركون به، ومن هؤلاء: المشركون.
وقسم يلتجئون إليه ويدعونه ويخلصون له الدعاء والتوحيد، وهؤلاء هم أهل الإيمان وهم خير الأقسام.[11]
قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] لكن حال المؤمنين يختلف عن أولئك، فقد يكون من تمام النعمة والمنة عليهم ما ينزل بهم من مصائب ومحن تجعلهم يلتجؤون إلى الله سبحانه، فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان وذوق طعمه، والبراءة من الشرك وأهله ما هو أعظم من زوال العسر وحصول اليسر، مما لا يستحضر تفصيله بال، أو يعبر عن كنهه مقال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب.[12]
أدلة ما ذكر آنفًا:
سأذكر هنا بعض الآيات الدالة على هذا النوع من الأدلة وأقف معها بعض الوقفات:
-       قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 22، 23]
قوله: { وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} أي موافقة لما يهوونه من غير انزعاج ولا مشقة، { وَفَرِحُوا بِهَا} أي اطمأنوا بها.
فبينما هم كذلك إذ جائتهم ريح عاصف شديدة الهبوب وجاءهم الموج من كل مكان فعرفوا أنه الهلاك فانقطع حينئذ تعلقهم بالمخلوقين، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا رب العالمين، وحينئذ دعوا الله مخلصين له الدين، ووعدوا الله من عند أنفسهم بالإخلاص له بالعبادة كما أخلصوا له بالدعاء في هذا الموقف العصيب إن هو أنجاهم.[13]
-       ذكر الله في كتابه على صفة الاستفهام التقريري قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] أي: هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب، واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله.
ومن يكشف السوء أي البرء والشر والنقمة إلا الله وحده...؟
ومن يجعلكم خلفاء الأرض بالتمكين والرزق والتناسل والتكاثر ونحو ذلك.
{ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} أي قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادكرتم ورجعتم إلى الهدى، ولكن الغفلة والإعراض، شامل فلذلك لا ارعويتم ولا اهتديتم.[14]
-       الله جل شأنه هو المدعو عند الشدائد، المرجو عند النوازل ويدل على ذلك ما يلي:
قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 67 - 69]
أي إذا لجأتم إليه في البحر أنجاكم، ثم بعد خروجكم تكفرون به وتشركون، أو تظنون أن بخروجكم من البحر نلتم على الأمن من عقابه وعذابه وانتقامه، فقد يخسف بكم جانب البر، أو قد يرسل عليكم مطرًا فيه حجارة [قاله مجاهد] كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ } [القمر: 34]، أي ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها.
من حوادث الرجوع إلى الله وقت الضرورة:
-       قصة عكرمة رضي الله عنه أنه ذهب فارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، فقال عكرمة في نفسه: والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فأضعن يدي في يديه فلأجدنه رؤوفا رحيمًا، فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه.[15]
-       قصة ابن حصين أخرج الترمذي رحمه الله عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: (يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا؟ قال أبي: سبعة ستًا في الأرض وواحدًا في السماء، قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال يا حصين: أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك، قال: فلما أسلم حصين قال يا رسول الله: علمني الكلمتين اللتين وعدتني، فقال: قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي)[16].


الهوامش:

[1] العين، ص7/7، وانظر: لسان العرب، ص4/484.

[2] انظر: لسان العرب ص4/483، الصحاح، ص2/20، معجم مقاييس اللغة، ص3/360.

[3] انظر: المصباح المنير، ص2/360.

[4] الإنصاف، ص14.

[5] درء التعارض، ص6/106، وانظر: الدرء، ص7/430، وبيان تلبيس الجهمية، ص1/266.

[6] الكشاف، ص3/381، وانظر: التحرير والتنوير، ص10/382.

[7] الفتاوى، ص1/55، 8/164-168، 379، ومنهاج السنة، ص5/414.

[8] هذه الحكاية في: سير أعلام النبلاء، ص22/112.

[9] الفتاوى، ص4/43- 44، وانظر: الاستقامة، ص1/167.

[10] أضواء البيان، ص7/405.

[11] الفتاوى، ص14/370- 372.

[12] الفتاوى، ص10/332- 333، وانظر: أيضًا درء التعارض، ص3/135- 136.

[13] تفسير ابن سعدي، ص/3/341، وانظر: تفسير ابن كثير، ص4/195.

[14] تفسير ابن سعدي، ص5/592.

[15] ابن كثير، ص5/93.

[16] سنن الترمذي (ح 3483)، وقال حديث غريب وضعفه الألباني وأخرجه الترمذي في الدعوات (ح1487)، وصححه، وأخرجه الطبراني في الدعاء، (ح 1393).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الدلائل على توحيد الربوبية: دليل الضرورة والاضطرار.doc doc
الدلائل على توحيد الربوبية: دليل الضرورة والاضطرار.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى