الدلائل على توحيد الربوبية: دليل الخلق

الدلائل على توحيد الربوبية: دليل الخلق





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛
يراد بدليل الخلق: الاستدلال بوجود المخلوق على وجود الخالق ووجوب عبادته.
ودليل الخلق ينبني على مقدمتين ونتيجة:
المقدمة الأولى: أن هذه الموجودات مخلوقة موجودة بعد أن لم تكون موجودة.
المقدمة الثانية: وهي كل مخلوق لابد له من خالق، وكل موجود لابد له من موجد.
إن وجود الموجودات بعد العدم، وحدوثها بعد أن لم تكن، يدل بداهة على وجود من أوجدها وأحدثها، ولابد أن يكون هذا الموجود متصفًا بصفات الربوبية والألوهية.[1]
وهذه الدلالة أظهر دلائل الربوبية، وما من شك أن العلم بهذا حاصل بالضرورة، من طريقي الحس والخبر الصادق[2]، ولذا نجد أن الله جل وعلا أكثر من ذكر هذا الدليل في كتابه العظيم ليبرهن لهم على استحقاقه للعبادة وحده لا شريك له، كما أنه هو وحده المتفرد بالخلق والملك والتدبير، ولهذا نجد أن الله جل ذكره بين هذا النوع من الأدلة بأساليب متنوعة وبذكر مظاهر من الخلق متعددة، فتارة يستدل جل وعلا عليه بتفرده بإيجاد الموجودات من عدم مبينا بالغ قدرته على إعادتها، وتارة يستدل بتفرده بتدبير هذا الكون وجميع المخلوقات فلا راد لأمره ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وتارة يستدل بتفرده سبحانه وتعالى بالقوة والسلطان وإسداء نعمه على خلقه وبسطه للأرض وتهيئته لها وتسخيره لما فيه للإنسانن وتارة يستدل بأفعاله جل شأنه من خلق المخلوقات من السماوات والأرض والناس والدواب وغيرها، وكثيرًا ما يأمر بالنظر في مآلات المعاندين والمكذبين وكيف فعل بهم، وتارة يستدل بخلق الإنسان وما مر به من أطوار وما ينتظره من مآل، كل ذلك وغيره كثير يستدل به سبحانه وتعالى على عظيم خلقه وقدرته.
لكن تتبع ذلك في كتاب الله ليس هذا محلًا لذكره إذ المقصود الإشارة؛ وسأقتصر على دليلين علهما يجمعان جميع الأدلة الواردة في كتاب الله جل جلاله وهما: دلالة العقل ودلالة الحس.
فأما الأول: وهو دلالة العقل:
أجمل الله سبحانه وتعالى دلالة العقل على ذلك بأوجز عبارة وأبلغها قال الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36]، وهذا دليل يرغم العقلاء على التسليم بأن هناك خالقًا معبودًا.
روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37]، قال: كاد قلبي أن يطير)[3].
قال الخطابي: (إنما كان انزعاجه عند سماع هذه الآية لحسن تلقيه معنى الآية ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة فأدركها بلطيف طبعه، واستشف معناها بزكي فهمه)[4]، وهذا استدلال بأمر مفحم لا يمكن إلا التسليم للحق أو الخروج عن موجب العقل.
ومما يذكر عن أبي حنيفة قوله لمن أنكر وجود الله: (ما تقولون في رجل يقول لكم: رأيت سفينة مشحونة بالأحمال، مملوءة من الأثقال، قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها، ولا متعهد يدفعها، هل يجوز في العقل؟ قالوا: هذا شيء لا يقبله العقل، فقال أبو حنيفة رحمه الله: يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها، وتغير أعمالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ؟ فبكوا جميعًا، وقالوا: صدقت وتابوا)[5].
وقال بعد الحكماء: لو لم يكن للعالم صانع لكان أضيع ضائع، هل رأيت مصنوعًا بلا صانع، وسقفًا مرفوعًا بلا رافع، وهل ينفي الصانع إلا جاحد أو مكابر؟!
الثاني: دليل الحس:
هذا الدليل يمكن حصره في قسمين كما أخبر سبحانه:
أولًا: النظر في الآفاق:
أمر الله بالتفكر في الكون والنظر في الآفاق في آيات عديدة متنوعة في العرض وفي الأسلوب، فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى: محتجًا على المشركين: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 60 - 66].
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: (قال تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]، و(الآفاق) جمع أفق وهو الناحية، والله جل وعلا قد بين من غرائب صنعه، وعجائبه، في نواحي سماواته وأرضه، ما يتبين به لكل عاقل أنه هو الرب المعبود وحده، كما أشرنا إليه، من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والجبال، والدواب والبحار إلى غير ذلك.
وبين أيضًا أن من آياته التي يريهم ولا يمكنهم أن ينكروا شيئًا منها: تسخيره لهم الأنعام ليركبوها ويأكلوا من لحومها، وينتفعوا بألبانها، وزبدها وسمنها، وأقطها ويلبسوا من جلودها، وأصوافها وأوبارها وأشعارها، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } [غافر: 79، 80].
الثاني: التفكر في الأنفس:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فالاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامة، وهي طريقة عقليّة صحيحة. وهي شرعيّة؛ دلّ القرآن عليها، وهدى النّاس إليها)[6]، وأكثر سبحانه من ذكرها في كتابه وأمر بالتفكر في خلق الإنسان والنظر في أطوار خلقه وعظيم إبداعه وتسخير ما في الكون له، فقد جعل الأرض بساطًا والجبال أوتادًا وألان له الحديد وقرب له البعيد وسخر له ما فيها من نبات ومعادن ومخلوقات، بل جعله سبحانه هو سيد هذه الأرض، ذكر ذلك سبحانه في كتابه بأساليب مختلفة وطرق متعددة، { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10].
بل لقد لفت سبحانه نظر رسوله الكريم إليه في أول آية أنزلها عليه فقال عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1، 2]، وأنظر سبحانه على من ترك التبصر والتفكر في خلق النفس الإنسانية، فقال عز وجل: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]
قال قتادة: (من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة)[7].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (نفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة، والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري، لا يحتاج إلى دليل)[8].
 
الهوامش:

[1] انظر: درء تعارض العقل والنقل، ص3/118، وما بعدها.

[2] انظر: الأدلة العقلية النقلية، ص217.

[3] رواه البخاري، (ح4854).

[4] الأسماء والصفات للبيهقي، شرح الحديث رقم (802)، وذكره القرطبي في تفسيره، ص17/151.

[5] درء تعارض العقل والنقل، ص3/127، وتفسير الرازي، ص1/255، وانظر: العقيدة في الله 70 للأشقر.

[6] النبوات 10/81، وانظر: الفتاوى 4/282.

[7] تفسير ابن كثير، 4/283، وانظر: الدر المنثور، 7/619.

[8] درء التعارض، ص7/219.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الدلائل على توحيد الربوبية: دليل الخلق.doc doc
الدلائل على توحيد الربوبية: دليل الخلق.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى