الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ وهي ما رُوي من طريق يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، حدَّثنا ابنُ حميد قال: (ناظرَ أبو جعفر أميرَ المؤمنين مالكًا في مسجد رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفعْ صوتَك في هذا المسجدِ، ... فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبدِ اللهِ، أأستقبلُ القبلةَ وأدعو، أم أستقبل رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟
فقال: ولِمَ تصرف وجهَك عنه، وهو وسيلتُك ووسيلةُ أبيك آدم - عليه السلام - إلى اللهِ تعالى يوم القيامة؟! بل استقبِلْه واستشفِعٍ به؛ فيشفعك اللهُ، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64])([1])، وقد احتجَّ بهذه الحكاية جماعةٌ([2]) على جواز التوسل بالذوات.
مناقشة هذه الحكاية روايةً ودرايةً:
فأما روايةً؛ فإن في إسناد هذه الحكاية العللَ التالية:
العلةُ الأولى: محمد بن حميد الرازي راوي الحكاية عن مالك مُتَّهَمٌ بالكذب؛ قال البخاري: (في حديثِه نظرٌ)، وقال النسائي: (ليس بثقةٍ)، وقال الجوزقاني: (رديء المذهب، غير ثقة)، وقال إسحاق بن منصور الكوسج: (أشهدُ على محمدِ بن حميد وعبيدِ بن إسحاق العطار بينَ يدي اللهِ أنهما كذابان)، وقال صالح بن محمد: (كلُ شيءٍ يحدثُنا ابنُ حميد كنا نتهمُه فيه)، وقال أبو زرعة وابن وارة: (صحَّ عندنا أنه يكذبُ).
وقد وثَّقه أحمدُ وابن معين، والراجح عدم توثيقه، وأما الذين وثَّقوه فعُذرهم أنهم لم يعرفوه، قال ابن خزيمة عندما قيل له: (لو حدَّث الأستاذُ عن محمد بن حميد، فإن أحمد قد أحسن الثناء عليه، قال: إنه لم يعرفْه، ولو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلًا)([3]).
والسبب في هذا أن الذين كذَّبوه هم أهلُ بلده من الخراسانيين الذين خَبِروا حالَه عن كَثب، ولعله عندما اجتمع بأحمد وابن معين ببغداد اختار لهم أحاديثه الصحيحة؛ ويدل لذلك قولُ ابن معين عندما سأل أبا حاتم الرازي: أيَ شيءٍ تنقمون عليه؟ فأخبره السبب، فذكر ابنُ معين أنه عندما قدم أخذوا منه كتاب يعقوب القمي ففرقوا الأوراق وسمعوه([4])، فهذا يدل على الرجوع عن توثيقه، وهناك رواية تدل على رجوع أحمد عن توثيقه ذكرها ابن حبان من طريق صالح بن أحمد عن أبيه([5]).
وبهذا نصل إلى أن جرحه مُقَدَّم على توثيقه للأمور التالية:
1- إنه جرح مُفَسَّر.
2- إن الذين جرحوه، بعضهم من أهل بلده وهم أخبر بحاله.
3- ثم هناك ما يدل على أن الذين وثَّقوه رجعوا عن توثيقه عندما أُخبروا بحاله الحقيقي.
وبهذا يسقط اتهام الكوثري لابن عبد الهادي بإهمال كلام من أثنى عليه، وأنه يذكر الجرح ويغفل التعديل في الأدلة التي تُساق ضد شذوذ شيخه([6]) - يعني ابن تيمية - هكذا زعم الكوثري، ولكن هذه التهمة ساقطة؛ لأن ابن عبد الهادي من النقاد الكبار، يعرف أن ثناء من أثنى عليه لا قيمة له مع ثبوت الجرح المفسر فيتركه.
ثم إن الكوثري نفسه رجَّح عدم توثيقه في مكان آخر؛ فقال في المقالات: (محمد بن حميد الرازي مُخْتَلَفٌ فيه، وقد كذَّبه كثيرون أشنعَ تكذيبٍ)([7])، كما قال في موضع آخر: (لا يُحْتَجُّ به عند كثيرين)([8])، وما هذا إلا من التناقض العجيب الذي يقع فيه من يتبع الهوى.
العلة الثانية: الانقطاع بين ابن حميد هذا وبين مالك بن أنس الإمام، فإنه لم يسمع من مالك ولم يلقَه([9])؛ ويدل على هذا أمور:
1- أن مولده كما قال الذهبي في حدود الستين ومئة([10])، وتوفي مالك عام (179هـ).
2- ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، كما قاله شيخ الإسلام([11]).
3- ويؤكد هذا أن أبا جعفر المنصور قد حجَّ عدة مرات، في عام (140هـ) و(144 و147 و152 هـ)، وهذه الأعوام هي التي يمكن أن يجتمع بمالك في المدينة، وأما حجته الأخيرة وهي عام (158 هـ) فقد تُوفي في الحج ولم يصلْ المدينةَ([12])، ولا يمكن لابن حميد أن يحضر المناظرة في هذه الأعوام التي أشرنا إليها؛ لأنه لا يمكن أن يحضر المدينة في آخر قدمةٍ قدمها المنصور وهو عام (152 هـ) لأمرين:
الأول: أنه لم يُولد إلا في حدود الستين كما قاله الذهبي، فهذه المناظرة على فرض صحتها قبل ولادته.
الثاني: لو فرضنا ولادته؛ لا يمكن حضوره المناظرة لأنه لم يرحل إلا وهو كبير، وهو في خراسان، والقصة في المدينة.
وقد حاول الكوثريُ نفيَ هذا الانقطاع، بأن عمر ابن حميد عند وفاة مالك لا يقل عن نحو خمس عشرة سنة، وهذا الذي قاله يشهد عليه لا له؛ لأن المناظرة على فرض وقوعها حصلت على أكبر تقدير عام (152هـ)، وبين هذا التاريخ ووفاة مالك عام (179هـ) سبع وعشرون سنة، وباعترافه هذا فابن حميد وُلد بعد المناظرة قطعًا، وليس من أهلِ المدينة، ولم يرحل إلا بعد ما كبر وتوفي عام (248هـ).
العلة الثالثة: إن في الطريق إلى ابن حميد من ليس بمعروفٍ، كما قاله شيخ الإسلام([13])، وقال ابن عبد الهادي: (إسنادٌ مظلمٌ منقطعٌ، وهو مشتملٌ على من يُتهم بالكذبِ، وعلى من يجهل حالَه)([14]).
العلة الرابعة: إن مالكًا - رحمه الله - لو ثبت عنه - وهيهات ذلك - لم يسندها، فهي مقطوعة، فليس في ذلك حجة، بل الحجة فيما ثبت بالكتاب والسنة.
العلة الخامسة([15]): إن محمد بن حميد تفرَّدَ برواية هذه الحكاية عن مالك، حيث لم يذكرها أحدٌ من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، وهو ضعيف عند أهل الحديث إذا أُسْنِدَ، فكيف إذا أرسل حكاية لا تُعرف إلا من جهته؟!
وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألةٍ في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون ضعَّفوا روايتهم، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكايةٍ تناقضُ مذهبَه المعروف عنه من وجوهٍ كثيرةٍ، رواها واحدٌ من الخراسانيين لم يدركه، وهو ضعيفٌ عند أهل الحديث؟!
وقد قال الخطابي في مثل هذا: (فتجدُ أصحابَ مالك لا يعتمدون من مذهبِه - أي في الفقه - إلا ما كان من روايةِ ابنِ القاسم والأشهب وضربائِهم من تلاد أصحابه، فإذا جاءت روايةُ عبدِ الله بن عبد الحكم وأضرابِه لم تكن عندهم طائلًا ... فإذا كان هذا دأبُهم وكانوا لا يقنعون في أمرِ هذه الفروعِ وروايتِها عن هؤلاء الشيوخِ إلا بالوثيقةِ والثبُّتِ، فكيف يجوزُ لهم في الأمرِ الأهمِّ والخطبِ الأعظم؟)([16]).
ويؤيد هذا الوجه أن من القواعد المقررة عند النقاد أن الشيخ إذا كان ممن يُجمع حديثه ويشترك في الأخذ عنه كثيرون من الحفاظ المتقنين، وذلك كمالك والثوري وشعبة والأعمش، ثم انفرد عن هؤلاء التلاميذِ الحفاظِ أحدٌ من الرواة ولم يكن من الحفَّاظ المتقنين؛ فإن روايته تُرَدُّ كما ذكره مسلمٌ في مقدمةِ صحيحِه([17]) وغيرُ واحدٍ من النقَّاد.
مناقشة هذه الحكاية درايةً:
1- إن هذه([18]) الحكاية تخالف ما ثبت عن مالك - رحمه الله - من نهيه عن الوقوف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ثابتٌ عن مالك بأسانيد الثقات في كتب أصحابه، كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرُه مثل العتبي، فقد ذكروا عن مالك أنه سُئِلَ عن أقوام يطيلون القيامَ مستقبلي الحجرةَ يدعون لأنفسِهم فأنكرَ مالكٌ ذلك([19]).
وقد حاول الكوثري تضعيف([20]) رواية إسماعيل القاضي بحكاية ابن حميد هذه، وأن ابن وهب روى ما يخالفها، وقد تقدَّم أن رواية ابن وهب لا تخالفُ الرواية المشهورة.
كما حاول الغماري الجمعَ بين الروايتين نقلًا عن غيره: بأن المنعَ من الدعاءِ عند القبرِ للعوامِّ، الذين يُخاف عليهم سوء الأدب، وأن هذه الحكاية فيمن يعلم آداب الدعاء كالمنصور([21]).
وهذا الجمع غيرُ صحيح؛ لأن هذه الحكاية غير ثابتة عنه حتى يجمع بينهما، وبين ما ثبت مما يخالفها، ثم إن منع مالك عام يشمل الجميع، فمن تأمل الألفاظ الواردة عن مالك في النهي عن الوقوف؛ يعرف أنه يمنع الوقوف عند القبر للدعاء مطلقًا، وأحكام الشريعة الغراء تأتي عامة شاملة، لا تخص طائفةً دون طائفةٍ.
2- إن مالكًا([22]) - رحمه الله - كان من أبعد الناس عن البدع، وقد كره قولَ الرجل: (زُرتُ قبرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -)، وكره تتبع([23]) الآثار التي بالمدينة، حتى كَرِهَ زيارةَ قباء مع وروده، وكل ذلك للمحافظة على السنة، فإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن أن يأمر بما لم يثبت بالسنة من الدعاء عند القبر.
3- إن([24]) هذه الرواية تخالف ما ثبت عن السلف؛ فالآثار الواردة عنهم تدل على أن هذا ليس من عملهم ولا عاداتهم، فلو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعًا لكانوا أسبق إلى ذلك لحرصهم على الخير.
4- إن لفظ([25]) الرواية فيها ركاكة من الناحية اللغوية في قوله: (استشفِعْ به فيشفعك اللهُ)؛ لأن "الاستشفاع به" معناه في اللغة أن يطلب منه الشفاعة، كما يُستشفع به يوم القيامة، وإذا كان المراد به الاستشفاع منه، أي طلب شفاعته، فإنما يُقال: "استشفعْ به فيُشَفِّعْهُ اللهُ فيك)، ولا يقال فيشفعك اللهُ فيه.
وهذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، فيقول أحدهم: (اللهمَّ إنَّا نستشفع إليك بفلان)، أي نتوسل به، وهذا ليس لغة السلف، ولا لغة العرب.
5- ثم إن عقد المناظرة بين العلماء والخلفاء غير معروف في التاريخ غالبًا؛ لأن المناظرة إنما تُعقد بين العلماء، وقد تكون في بعض الأحيان القليلة بحضور بعض الخلفاء وإشرافهم.
وقد ذكر العلماءُ المناظرةَ بين مالك وأبي حنيفة، وبين مالك وأبي يوسف بحضور بعض خلفاء بني العباس.
6- ثم لو صحت([26]) هذه الحكاية، يمكن أن يكون مالك نهى عن رفع الصوت في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، ويكون مالك آمرًا بما أمرَ اللهُ به من توقيره وتعزيره - صلى الله عليه وسلم -، لكن وقع تحريفٌ في ألفاظِ الحكاية.
فعلى فرض صحتِها، ليس معنى التوسل الذي في الحكاية هو التوسل في الدنيا، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، ولكن من الناس من يحرِّفُ نقلها مع أن أصلها ضعيف.
والحاصل([27])؛ أن هذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون في غاية الضعف والوهن، مكذوبةً على مالك، أو تكون مُغَيَّرَةً، وإما أن تُفَسَّر بما يوافق مذهب الإمام مالك - رحمه الله تعالى -، فعلى كل تقديرٍ فليس فيها حجة.
الهوامش
([20]) المقالات، الكوثري، ص(393)، فقد زعم أن إسماعيل القاضي لم يسندها، وأنه عراقي، وأن رواية المدنيين والمصريين تخالفه، فأما زعمه بأنه لم يسنده فهذا تخمين وظن، فإنه لم ينقله عن كتاب المبسوط، فإنه لم يذكر أنه رآه، وقد نقل ابن تيمية وابن عبد الهادي عن الكتاب مباشرة، وذكرا ما يفيد أنه أسنده، وأما زعمه أنه عراقي فهو أيضًا غير صحيح؛ لأن إسماعيل لم ينفرد بهذا، بل معه العتبي وغيره، كما أن رواية ابن وهب المصري لا تخالفه، كما نقل عنه ابن القار المصري كراهته التردد لأهل المدينة، ص(69).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.