الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ وذلك فيما رواه الدارمي عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله، قال: (قَحِطَ أهلُ المدينةِ قحطًا شديدًا، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كُوَى إلى السماءِ، حتى لا يكون بينه وبين السماءِ سقفٌ، قال: ففعلوا، فمُطِرْنَا مطرًا حتى نبتَ العشبُ، وسَمنَت الإبلُ حتى تفتقت من الشحمِ، فسُمي عامَ الفتقِ)([1])، قد احتج([2]) به على جواز التوسل بالذوات، الجواب عن هذا الأثر من وجهين.
الوجه الأول ـ ما يتعلق بنقد الإسناد:
أخرج هذا الأثرَ الدارميُ في سننه([3]): (حدثنا أبو النعمان، ثنا سعيد بن زيد، ثنا عمرو بن مالك النكري، حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قَحطَ أهلُ المدينةِ ..) إلخ.
فهذا الإسناد فيه عدة علل:
1- سعيد بن زيد فيه ضعف([4]).
2- إن أبا النعمان محمد بن الفضل وهو الملقب بعارم قد اختلط، ولم يُذكر الدارمي فيمن سمع منه قبل الاختلاط([5]).
3- إن الأثر لو صحَّ فهو موقوفٌ، فلا حجةَ فيه لأنه يمكن أن يكون من قبيل الاجتهادات التي تقع من آحادِ الصحابة، وقد تقدَّم أن فعل الصحابي إذا خالف السنةَ لا يحتج به.
وقد ذكر هذه العلل الثلاث([6]) الشيخُ الألباني - حفظه الله - وبقي في الأثر علتان أخريان رابعة وخامسة([7])؛ وهما:
4- إن عمرو بن مالك النكري قال فيه ابن عدي في ترجمة أبي الجوزاء: (حدَّث عنه عمرو بن مالك قدرَ عشرة أحاديث غير محفوظةٍ)([8])، وهذا الأثر من روايته عنه فيكون غير محفوظ.
وقال البخاري أيضًا في أبي الجوزاء: (في إسناده نظر)([9])، وقد ذكر الحافظُ ابن حجر أن كلام البخاري هذا يحمل على روايةٍ خاصةٍ، وهي رواية عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء، والنكري ضعيف عنده([10]) - أي البخاري -.
وقال ابنُ حبان في ترجمةِ ابنه يحيى بن عمرو بن مالك النكري: (كان منكرَ الروايةِ عن أبيه - يريد يحيى - ثم قال: ويحتملُ أن يكونَ السبب في ذلك منه أو من أبيه أو منهما معًا، ولا نستحلُّ أن يُطلقَ الجرحُ على مسلمٍ قبل الاتضاحِ، بل الواجبُ تنكب كلِّ روايةٍ يرويها عن أبيه؛ لما فيها من مخالفةِ الثقات والوجودِ من الأشياءِ المعضلات، فيكون هو وأبوه جميعًا متروكين من غيرِ أن يطلق وضعها على أحدهما ...)([11]).
فيُفهم من هذا أن ابن حبان متوقف فيه، لا يوثقه ولا يجزم بجرحه، ومع هذا فقد ذكره في الثقات، وقال: (ويُعتبر حديثُه من غيرِ روايةِ ابنِه عنه (ت: 129هـ) يخطىء ويغرب)([12])، ولكن هذا ليس توثيقًا مطلقًا، فإنه إنما يفيد أنه يُعتَبَرُ به فى المتابعات والشواهد ولا يفيد أنه يقبل تفرده.
وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا([13])؛ مما يوحي إلى جهالة حاله عنده، لكن ابن معين قال فيه: ثقة([14])، ووثقه الذهبي أيضًا([15])، وقال الحافظ ابن حجر: (صدوق له أوهام)([16]).
فتبيَّن مما سبق أن النكري روايته عن أبي الجوزاء كما هنا، غير محفوظة كما قاله ابن عدي، وأنه ضعيف عند البخاري كما قاله الحافظ، ويُعتبرُ به فقط عند ابن حبان على ما قاله في الثقات، ويتوقف في أحاديثه على ما مال إليه في المجروحين إذا كان من رواية ابنه عنه.
ولم نجد له توثيقًا من المتقدمين إلا ابن معين، فيُعَارَض هذا التوثيق بجرح البخاري وابن حبان وابن عدي وهم أكثر عددًا منه، وجرح بعضهم مُفَسَّرٌ لاسيما إذا رُوي عن أبي الجوزاء كما هنا، فيُقَدَّم على توثيق ابن معين والذهبي وابن حجر؛ فتحصل من هذا أنه لا يُقبل فيما تفرد به، لاسيما عن أبي الجوزاء كما هنا، وإنما يُعتبر به في المتابعات والشواهد.
5- الانقطاع بين عائشة - رضي الله عنها - وبين أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي؛ فقد قال البخاري: (في إسناده نظر)([17]).
وقد حمل ابنُ عدي كلام البخاري هذا على أنه يريد أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود وعائشة وغيرهما، لا أنه ضعيف عنده([18])، وقال ابن عدي أيضًا: (وأبو الجوزاء روى عن الصحابةِ ابنِ عباس وعائشة وابنِ مسعود وغيرِهم، وأرجو أنه لا بأسَ به، ولا يصحح روايته عنهم أنه سمعَ منهم)([19]).
وممن ذكر عدم سماعه عن عائشة الحافظُ ابنُ عبدِ البر؛ قال أبو زرعة ابن الحافظ العراقي: (وذكرَ ابنُ عبدِ البر في التمهيدِ أنه لم يسمعْ من عائشة، وحديثُه عنها مرسل)([20])ونقله عن ابن عبد البر أيضًا الحافظُ في التهذيب فأقره([21]).
فهؤلاء الحفاظ؛ البخاري وابن عدي وابن عبد البر والعراقى وابن حجر يقررون عدم سماعه من عائشة، فاتضح بهذا أن فيه انقطاعًا.
وبهذه العلل الخمس يتبين ضعف إسناد الأثر ضعفًا شديدًا؛ لأن الواحدة منها تكفي لرده، فكيف وهي مجتمعة؟!
الوجه الثاني - ما يتعلق بنقد المتن:
وأما ما يتعلق بنقد متن هذا الأثر فعلى وجوه:
1- إن هذا([22]) الأثر يخالف ما ثبت من الصحابة باتفاق أهل العلم من استسقائهم بالدعاء المشروع، إما في المسجد في خطبة الجمعة ونحوها، وإما بالخروج إلى الصحراء، وهذا ثابت عنهم قطعًا، ومن المعلوم أن من علامة وضع الحديث مخالفتَه للقطعي.
2- ومما يبين([23]) كذبَ هذه الرواية، أنه لم يكن في حياة عائشة للبيت كوة، بل كان بعضه باقيًا على ما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهرْ الفيءُ بعد([24]).
ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد، وأُدخِلَت الحُجر في المسجد، ثم بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدارًا عاليًا، وبعد ذلك جُعلت الكوة لينزل منها إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنسٍ أو تنظيفٍ، وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذبٌ بيِّنٌ.
3- ولو صح([25]) هذا الأثر لكان حجةً ودليلًا على أن القوم لم يكونوا يُقْسِمُون على اللهِ بمخلوقٍ، ولا يتوسلون في دعائهم بميتٍ، ولا يسألون اللهَ به، وإنما فتحوا على القبرِ لتنزلَ الرحمةُ عليهم، ولم يكن هناك دعاء يُقْسِمُون به عليه، فأين هذا من هذا؟!
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.