حقيقة توسلُ آدم بالنبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم
وهوَ مَا رُوي منْ طريقِ أبي الحارث عبدِ اللهِ بن مسلم الفهري: حدثنا إسماعيلُ بن مسلمة أنبأَ عبدُ الرحمنِ بن زيد بن أسلم عنْ أبيه عن جدِّه عنْ عمرَ مرفوعًا: (لمَّا اقترفَ آدمُ الخطيئةَ قالَ: يا رَبِّ أسألُكَ بحقِّ محمدٍ لما غفرتَ لي، فقالَ: يا آدم وكيفَ عرفتَ محمدًا ولمْ أَخْلُقْهُ؟ قالَ: يا ربِّ لَمَّا خَلَقْتَنِي بيدِكَ ونفختَ فِيَّ مِنْ روحِكَ رفعتُ رأسِي؛ فرأيتُ على قوائم العرشِ مكتوبًا: لا إله إلَّا الله محمدٌ رسولُ اللهِ، فعلمتُ أنَّكَ لم تضِفْ إلى اسمِّك إلا أحبَّ الخلقِ إليكَ، فقالَ: غفرتُ لكَ، ولولا محمد لَمَا خَلَقْتُكَ)([1]).
قدْ احتجَّ جماعةٌ بهذا([2]) الحديثِ على جوازِ التوسلِ بذاتِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وقالوا: إنَّ هذا توسلٌ بذاتِه، ولا يمكنُ القولُ بأنَّ هذا توسلٌ بدعائِه؛ لكونِه قبلَ وجودِه.
مناقشةُ هذا الحديثِ سندًا:
قدْ تكلمَ كبارُ نُقَّادِ الحديِث وجهابذاتِه على هذا الحديثِ، فحكموا بوضعِه وبطلانِه، فمنَ الحُفَّاظِ الذين حكموا بوضعِه وبطلانِه:
1- الذهبيُّ فقدْ حكمَ بوضعِه وبطلانِه([3]).
1- وابنُ حجر حكمَ ببطلانِه([4]).
3- وابنُ تيمية حكمَ بوضعِه وبأنه لا أصلَ له([5]).
4- وابنُ عبدِ الهادي([6]).
5- والألباني([7]).
وَعِيْبَ على الحاكمِ إخراجُ هذا الحديثِ وقولُه: (صحيحُ الإسنادِ، وهوَ أولُ حديثٍ ذكرتُه لعبدِ الرحمنِ بن زيد بن أسلم في هذا الكتابِ)([8])، مع أنَّ الحاكمَ نفسَه ذكرَ عبدَ الرحمن بن زيد بن أسلم في كتابِه (المدخل) في المجروحين، وقالَ: (روى عنْ أبيه أحاديثَ موضوعةً لا يخفى على مَنْ تأملَها مِنْ أهلِ الصناعةِ أنَّ الحملَ فيها عليه)([9]).
وأما محاولةُ([10]) تقويةِ عبدِ الرحمن بن زيد بأنَّه لم يُتَّهَمْ بالكذبِ فيردُّه كلامُ الحاكمِ نفسُه السابقُ مِنْ أنَّه روى أحاديثَ موضوعةً، فهذه محاولةٌ يائسةٌ.
وكذلكَ تأييدُه([11]) بالحكايةِ المكذوبةِ عَنْ مالك، وسيأتي مناقشتُها قريبًا.
هذا مِنْ ناحيةِ السندِ، ومنْ ناحيةِ المتنِ فالحديثُ منقوضٌ بأوجه:
1- إنَّ الراجحَ فِي تفسيرِ الكلماتِ التي تلقَّاها آدمُ مَا وردَ في آيةٍ أخرى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وهذا مَا رَجَّحَهُ إمامُ المفسرين الطبري([12]) - رحمهُ اللهُ -، وَأَوْلَى ما يُفَسَّرُ القرآنُ بالقرآنِ، فإذا وُجِدَ فلا يُعْدَلُ عنه.
2- قدْ ذكرَ ابنُ جرير وأبو حاتم الأقوالَ الواردةَ في تفسيرِ الكلماتِ وليسَ فيها هذا المزعوم، وقَدْ نَصَّ ابنُ أبي حاتم بأنَّه قدْ اخْتُلِفَ في تفسيرِ الآيةِ على ستةِ أوجهٍ، ثُمَّ ذكرَها واحدةً تلو الأخرى ولم يذكرْ هذا([13]).
3- إنَّ التفسيرَ الذي وردَ عَنْ عبدِ الرحمنِ بن زيد بن أسلم يخالفُ هذا؛ فقدْ أخرجَ الطبري عنْ يونس بن عبدِ الأعلى قالَ: (أَخْبَرَنَا ابنُ وهب قالَ: قَالَ ابن زيد في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ...} [البقرة: 37] الآية، قالَ: لَقَّاهُمَا هذه الآيةَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23])([14])، فلو كانَ عندَ عبدِ الرحمن بن زيد حديثٌ مرفوعٌ في تفسيرِ الآيةِ لَمَا عَدَلَ عنه إلى غيرِه.
4- ثُمَّ إنَّ فِي الروايةِ أنَّ آدمَ هوَ الذي اطلَعَ بنفسِه على اسمِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -، والآيةُ تدلُّ على أنَّه تلقى الكلماتِ مِنَ اللهِ تعالى، فهذه الروايةُ المكذوبةُ تخالفُ الآيةَ.
5- لوْ كانَ آدمُ - عليه السلامُ - قَدْ قالَ هذا وحصلتْ له التوبةُ بهِ؛ لكانتْ أمةُ محمدٍ - عليه الصلاةُ والسلامُ - أحقَّ بِهِ منه، وقدْ عَلِمَ كُلُّ عالمٍ بالآثارِ أنَّ النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم - لم يأمرْ أمتَه بِه، ولا نُقِلَ عنْ أحدٍ منَ الصحابةِ الأخيارِ، ولا نقلَه أحدٌ منَ العلماءِ الأبرارِ([15]).
6- إنَّ التوبةَ تكونُ بالاعترافِ بالذنبِ والإقرارِ بِهِ والاستغفارِ، ويتضمنُ ذلكَ قولَه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وإذا حصلتْ المغفرةُ بالتوبةِ حَصَلَ المقصودُ بها لا بغيرِها([16]).
7- إنَّ مِنَ المعلومِ بالاضطرارِ أنَّ الكفارَ والفُسَّاقَ لا يحتاجُ أحدُهم إذا تابَ إلى اللهِ بالإقسامِ بأحدٍ، فكيفَ يحتاجُ آدمُ إلى مَا لا يحتاجُ إليه أحدٌ مِنَ المذنبين؟!([17])
8- ثمَّ إنَّه لوْ ثبتَ لَمْ يَكُنْ فيه حجةٌ؛ لأنَّه شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وليسَ شرعًا لنَا إلا إذا وردَ شرعُنا بموافقتِه، ومِنَ المعلومِ أنَّ شرعَنا لم يَرِدْ بالإقسامِ بالمخلوقِ على الخالقِ فِي التوبةِ وغيرِها.
9- إنَّ([18]) هذه الروايةَ تُخَالِفُ القطعيَّ مِنْ خَلْقِ آدم وبنيه لأجلِ العبادةِ لا لأجلِ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وسلم -؛ قالَ تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وَقَدْ ذَكَرَ علماءُ علومِ الحديثِ أنَّ مِنْ علاماتِ وَضْعِ الحديثِ مخالفتَه للقطعي كَمَا تَقَدَّمَ.
10- ومما يُقَوي وَضْعَ الحديثِ وَبطلانَه أنَّ بعضَ الشيعةِ ذكروا بأسانيدهم عنْ أبي عبدِ اللهِ (جعفر الصادق)، أنَّ اللهَ عَرَضَ على آدم في الميثاقِ ذريتَه وفيهم النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وعليُّ وفاطمةُ والحسنُ والحسينُ فَحَسَدَهُمْ!! وفي روايةٍ عندَهم لَمْ يُقِر بالولايةِ لهم؛ فَطُرِدَ لهذا مِنَ الجنةِ!! فلمَّا تابَ مِنْ حَسَدِهِ وأقرَّ بالولايةِ ودعا بحقِّ الخمسةِ - محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين - غَفَرَ اللهُ لَهُ!! وذلكَ قولُه تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ...} [البقرة: 37]([19])!!
والظاهرُ أَنَّ بعضَ الضعفاءِ نقلَ عنْ هؤلاء الروافض هذا الذي عندَهم مِنْ توسلِ آدم بحقِّ هؤلاء الخمسة، فقصرَهُ على النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -، ومثلُ هذا الصنيعِ معروفٌ مِنَ الذين يسرقون الأحاديثَ فَيُرَكِّبُونَ لها أسانيد أوْ متونًا بزيادةٍ أو نقصان تعميةً وإخفاءً.
وَمِنَ العجبِ أنَّ هؤلاء الذين ادعوا توسلَ آدم بالنبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - لم يقتصروا عليه، بَلْ مَا نَجَا نوحُ فِي السفينةِ وَلَا إبراهيمُ في النارِ إلا بالدعاءِ بِهِ، وهذا عينُ مَا تَزْعُمُهُ الروافضُ فِي أئمتِهم.
قَالَ زيني دحلان في المواهب: (ويرحمُ اللهُ ابنَ جابرٍ حيثُ قالَ: بِهِ قَدْ أجابَ اللهُ آدمَ إذ دعَا، ونجَّى في بطنِ السفينةِ نوحَ، وما ضَرَّتْ النارُ الخليلَ لنورِه، وَمِنْ أجلِهِ نالَ الفداءَ ذبيحٌ)([20]).
([1]) رواهُ الطبراني في الصغير، (2/82-83)، والحاكم في المستدرك، (2/615)، والبيهقي في الدلائل، (5/489)، وقد ساقَ في المعجم الصغير إسنادَه هكذا: (حدثنا أحمد بن سعيد المدني الفهري حدثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد)، ولعله خطأ مطبعي.
([2]) ممن احتجَّ به البكري، كما في الرد على البكري، ص(4)، والسبكي في الشفا، ص(172)، والزركشي في الأزهية، ص(173)، والهيتمي كما في شواهد الحق، ص(137)، والسمهودي في الوفا، (4/1371)، ودحلان في الخلاصة، ص(242)، والدرر، ص(9)، والسمنودي في سعادة الدارين، ص(157)، والعزامي في البراهين، ص(394)، والفرقان، ص(117)، والكوثري في محق التقول، ص(391)، وابن جرجيس كما في منهاج التأسيس، ص(391)، والغماري في الإتحاف، ص(5-7)، والرد المحكم، ص(121، 141)، والعلوي في مفاهيم، ص(46-47)، والبوطي في السلفية، ص(155).
([3]) تلخيص المستدرك، ابن الملقن، (2/615) قال: (قُلتُ: بَلْ موضوعٌ وعبدُ الرحمن واه)، وقالَ الذهبي في الميزان، (2/504) في ترجمة عبدِ اللهِ بن مسلم الفهري: روى خبرًا باطلًا فيه: ((يا آدم لولا محمد ما خلقتُكَ)).
([9]) المدخل، الحاكم، ص(154)، وانظر اللسان في ترجمة الحاكم حيثٌ نَصَّ على وهم الحاكم، ونصَّ على عبد الرحمن بن زيد، اللسان، (5/233)، وانظر أيضًا: الميزان، الذهبي، (3/608) والتذكرة، له، (3/1042-1045)، ويراجع للتوسع في الكلام على الحديث: السلسلة الضعيفة، الألباني، (1/38-45)، والتوسل أنواعه، له، (102-114)، وهذه مفاهيمنا، صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ص(20-30).
([15]) انظر: الوجه الخامس والسادس في الرد على البكري، ابن تيمية، ص(11)، وانظر: الخامس أيضًا في منهاج السنة، له، (7/132).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.