الردُّ على كراماتِ شيوخِ الصوفيةِ (1)

الردُّ على كراماتِ شيوخِ الصوفيةِ (1)





الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...تتعلقُ كراماتِ شيوخِ الصوفيةِ ودورِها في جعلِهم مصدرًا للتصوفِ وسلوكياتِ أتباعِهم، لأنَّ تَمَتُّعَ شيوخِهم بالكراماتِ شاهدٌ دامغٌ على مكانتِهم وقدراتِهم الخارقةِ، وعلى استقامتِهم وقبولِهم عندَ اللهِ، حَسْبَ زَعْمِ الصوفيةِ.

أولًا: لا يصحُّ تصديقُ ما روتْه تلكَ الرواياتُ عنْ كراماتِ شيوخِ الصوفيةِ وقدراتِهم في التأثيرِ في بعضِ مظاهرَ الطبيعةِ؛ لأنَّ مِنْ أهمِّ نتائج كتابِنا هذا أنَّه أقمْنَا الأدلةَ القطعيةَ على أنَّ الرواياتِ الصوفيةَ ضعيفةٌ مِنْ داخلِها، فالأصلُ فيها الضعفُ لا الصحةُ.

والدليلُ على ذلكَ الشواهدُ الآتيةُ:

أولها: إنَّه تبينَ مِنْ كتابِنا هذا أنَّ الصوفيةَ هدموا الشرعَ والعقلَ والعلمَ بمروياتِهم وأفكارِهم التي أسسوا بها للتصوفِ، وهذا يعني أنَّ تلك الرواياتِ التي أسسوا بها لفكرِهم باطلةٌ، وهيَ مِنْ مفترياتِهم، ومَنْ هذا حالُه لا تقبلُ روايتُه المتعلقةُ بكرماتِهم المرويةِ عَنْ شيوخِهم .

والشاهدُ الثاني: مفادُه أنَّه بَيَّنَّا سابقًا أنَّ الصوفيةَ أقاموا تصوفَهم على التقيةِ والتحريفِ واختلاقِ الرواياتِ، وَمَنْ هذا حالُه لا تُقْبَلُ رواياتُه المتعلقةُ بكرامتِهم المزعومةِ.

والشاهدُ الثالث: إنَّ أحوالَ الصوفيةِ العاديةَ المعروفةَ عنهم تشهدُ بنفسِها على بطلانِ ما ذكرتْه رواياتُهم المتعلقةُ بتلكَ الكراماتِ المرويةِ عَنْ شيوخِهم؛ لأنهم لو كانوا فعلًا يتمتعون بتلكَ الكراماتِ والقدراتِ الخارقةِ علمًا ودعاءً وتصرفًا في بعضِ مظاهرَ الطبيعةِ؛ ما عاشوا حياةً مليئةً بالفقرِ والطمعِ، والخوفِ والضعفِ.

فمنهم مَنْ كانَ يتسولُ ليقوتَ نفسَه، ومنهم منْ كانَ يحتالُ على الناسِ ليكسبَ القوتَ بعقدِ مجالس الغناءِ، والتظاهر بلباسِ المرقعاتِ، ومنهم مَنْ كانَ يدَّعي الربوبيةَ ويعجزُ عنْ إنقاذِ نفسِه مِنَ القتلِ كمَا حدثَ للحلاجِ والسهروردي المقتول.

ومنهم مَنْ كانَ يوالي الظلمةَ مِنَ الحكامِ والأغنياءِ طمعًا في أموالِهم، وليبنوا له الزوايا والخوانقَ، ومنهم مَنْ كانَ يبحثُ عنْ الأعراسِ والمناسباتِ ليحضرها طلبًا للأكلِ ومجالسِ الرقصِ، فهذه الأحوالُ أدلةٌ دامغةٌ على بطلانِ ما يرويه الصوفيةُ عنْ تمتعِ شيوخِهم بكراماتٍ وقدراتٍ غيرِ عاديةٍ، حتَّى أنهم زعموا أنَّ ابنَ أدهم كانَ يحركُ الجبالَ؛ فلوْ كانَ كذلكَ ما كانتْ تلكَ أحوالُهم.

والشاهدُ الأخير - الرابع -: بما أنَّه قادمٌ الدليلُ القطعي على أنَّ التصوفَ وأهلَه لمْ تَكُنْ أحوالُهم إيمانيةً شرعيةً، وإنما كانتْ أحوالًا فاسدةً ونفسيةً وشيطانيةً، حتَّى أوصلتْهم إلى الكفرِ باللهِ ورسولِه ودينِه؛ فإنَّ هذا يوجبُ علينا عدمَ تصديقِ ما يرويه الصوفيةُ مِنْ أحوالِ شيوخِهم على أنها كراماتٌ ربانيةٌ، وإنما إنْ صحَّ وَقْعُ بعضِها فهي أحوالٌ نفسيةٌ هلوسيةٌ شيطانيةٌ لا رحمانية ربانية.

وثانيًا: إنَّ تلكَ الكراماتِ المرويةَ عنْ شيوخِ الصوفيةِ نصَّتْ صراحةً على أنهم خرقُوا بعضَ سننِ الكونِ، وكانتْ لهم قدراتٌ غيرُ عاديةٍ تفوقوا بها على غيرِهم مِنَ البشرِ، فمنهم مَنْ حَرَّكَ جبلًا، ومنهمْ مَنْ طارَ في السماءِ، ومنهم مَنْ تأتيه بعضُ الطيورِ بالأخبارِ، وغيرُ هذا كثيرٌ.

وكلُّ هذه الرواياتُ مزاعمُ باطلةٌ لأنَّ سننَ الكونْ لنْ يقدرَ أحدٌ على خرقِها ولا تغييرِها إلَّا خالقها سبحانه وتعالى، وما يظهرُ على أيدي الأنبياءِ مِنْ معجزاتٍ لا يصحُّ الاحتجاجُ بها؛ لأنها تَدَخُّلٌ مباشرٌ مِنَ اللهِ تعالى لتأييدِ أنبيائِه، ولا تحدثُ إلا لهم، ولنْ يستطيعَ غيرُ الأنبياءِ الإتيان بها.

والدليلُ على ذلكَ هوَ أنَّ اللهَ تعالى ذكرَ في كتابِه الحكيمِ أنَّ سننَه في مخلوقاتِه ثابتةٌ ولا تتغيرُ، ولنْ يستطيعَ أحدٌ تغييرَها؛ قالَ سبحانه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، وقالَ تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].

وعندما ماتَ إبراهيمُ ابنُ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وحدثَ كسوفٌ وقالَ الناسُ: كسفتْ الشمسُ لموتِه، تدخَّلَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وقالَ: ((إِنَّ الشمسَ وَالقمرَ لا ينكسفان لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، فإذا رأيتُم فصلُّوا وادعوا اللهَ))([1]).

والدليلُ على ذلكَ أيضًا مِنَ العلمِ والواقعِ، فهما يشهدان بأنَّ الكونَ محكومٌ بقوانين وسننٍ كونيةٍ لا تتغيرُ، ولنْ يستطيعَ إنسانٌ ولا مخلوقٌ أنْ يغيرَها، وبما أنَّ الصوفيةَ بشرٌ مثلنا فلنْ يستطيعَ أحدُهم تغييرَها ولا التحكمَ فيها.

وتاريخُ الصوفيةِ المقروءُ وواقعُهم المشهودُ هما دليلان دامغان ضدَّهم، فهما يشهدان بأنَّ كثيرًا منهم أوْ أكثرهم في خدمةِ الظلمةِ مِنَ الحكامِ والأغنياءِ، لكي يوفروا لهم ما يحتاجونه مِنْ أموالٍ للتمتعِ بالحياةِ، ولتيسيرِ مؤسساتِهم الصوفيةِ، فلوْ كانتْ كما وصفتْهم تلكَ الرواياتُ بأنهم أصحابُ كراماتٍ وقدراتٍ خارقٍة ما كانوا ضعفاءَ موالين للظلمةِ طلبًا لمتاعِ الدنيا.

وَمِنْ ذلكَ أيضًا أنَّ المؤرخَ الصوفيَّ عبدَ الوهابِ الشعراني ذكرَ أنَّ سيدَه الصوفي يوسف العجمي الكوراني أظهرَ (بمصرَ الكراماتِ وَالخوارقَ، وكانتْ طريقتُه التجريدَ، وأنْ يخرجَ كُلَّ يومٍ فقيرًا - صوفيًّا - مِنَ الزاويةِ يسألُ الناسَ إلى آخرِ النهارِ، فمهما أتى به هو يكونُ قوتَ الفقراءِ ذلكَ النهارِ كائنًا مَا كانَ.

وكانَ يومُ الفقراءِ يأتي أحدُهم بالحمارِ محملًا خبزًا، وبصلًا وخيارًا، وفجلًا، ولحمًا، ويأتي ببعضِ كسيراتٍ يابسةٍ يأكلُها فقيرًا واحدًا؛ فسألوه عَنْ ذلكَ فقالَ: أنتمْ بشريتُكم باقيةٌ، وبينكم وبينَ الناسِ ارتباطٌ، فيعطونكم، وأنا بشريتي فنيتْ حتَّى لا تكادُ تُرى، فليسَ بيني وبينَ التجارِ وَالسوقةِ وأبناءِ الدنيا كبيرُ مجانسةٍ.

وكانَ صورةُ سؤالِه أنْ يقفَ على الحانوتِ أو البابِ، ويقولُ: "الله"، ويمدُّها حتَّى يغيب، ويكادُ يسقطُ إلى الأرضِ، فيقولُ مَنْ لا يعرفُه: "هذا العجمي راحَ في الزقزية"، وكانَ - رضيَ اللهُ عنه - يغلقُ بابَ الزاويةِ طوالَ النهارِ لا يفتحُ لأحدٍ إلَّا للصلاةِ.

وكانَ إذا دَقَّ دَاقٌّ البابَ يقولُ للنقيبِ: اذهبْ فانظرْ مِنْ شقوقِ البابِ، فإنْ كانَ معه شيءٌ مِنَ الفتوحِ للفقراءِ، فافتحْ له، وإلا فهيَ زياراتٌ فشارات)([2]).

فهلْ يُعْقَلُ؟َ وهلْ يَصِحُّ فِي المنطقِ أنَّ صوفيًّا صاحبَ خوارق وكراماتٍ ذلكَ هوَ حالُه وحالُ أصحابِه فِي طَلَبِ الرزقِ، يطلبونه بالطمعِ والتسولِ واستعطافِ الناسِ؟! فلماذا لا يُسَخِّرُ قدراتِه الخارقةَ فِي توفيرِ الطعامِ له وَلأصحابِه ليتفرغُوا للعبادةِ الصوفيةِ التي نذروا أنفسَهم لها، حَسْبَ زعمِهم؟!

فهذا تناقضٌ صارخٌ: قُدُرَاتٌ خارقةٌ يتمتعُ بها شيخُ الصوفيةِ مقابلُ عجزٍ وَضعفٍ وجهدٍ كبيرٍ طلبًا للرزقِ، أليسَ هذا دليلًا دامغًا على بطلانِ مَا زَعَمَهُ الشعراني بأنَّ سيدَه كانَ صاحبَ كراماتٍ خارقةٍ؟!

وثالثًا: إنَّ ما رُوي مِنْ خوارق عَنْ شيوخِ الصوفيةِ على أنها مِنْ كراماتِهم، هيَ فِي الحقيقةِ ليستْ كذلكَ، فإمَّا أنها كراماتٌ وخوارقُ مكذوبةٌ، وهذا هوَ الغالبُ على رواياتِ كراماتِ الصوفيةِ، بِحُكْمِ ضَعْفِ الروايةِ الصوفيةِ مِنْ داخلِها كمَا بيَّنَّاه سابقًا، وإمَّا أنَّ بعضَها مِنَ السحرِ وَالشعوذةِ.

ومنها: ما هوَ ليسَ بكراماتٍ، وإنما هيَ مجردُ أدعيةٍ، فقدْ تتحققُ أوْ لا تتحققُ، وقدْ يتأخرُ ظهورُ مَا يخالفُها فيجعلُها الصوفيةُ مِنْ كراماتِ شيوخِهم الذينَ صدرَ منهم ذلكَ الدعاءُ، مثلَ ما رواه القشيري بقولِه: (سمعتُ الأستاذَ أبا علي الدقاق - رحمهُ اللهُ تعالى - يقولُ لَمَّا نفى أهلُ بلخ محمدَ بن الفضلِ مِنَ البلدِ، دعا عليهم وقالَ: اللهمَّ امنَعْهُم الصدقَ؛ فَلَمْ يخرجْ مِنْ بلخ بعدُ صديقٌ)([3]).

ودعاؤُه هذا لم يتحققْ في أهلِ بلخ، فقدْ ظهرَ فيهم علماءٌ كبارٌ زهادٌ ثقاتٌ، ظهروا فيها بعدَ وفاةِ ذلكَ الصوفي؛ منهم: أبو علي الحسن بن علي بن محمد بن أحمد بن جعفر البلخي الوخشي، وأبو عمرو عثمان بن محمد بن أحمد البلخي، وعبد المطلب بن الفضل القرشي البلخي الحنفي([4]).

ومنها: ما هوَ تخيلاتٌ وتهيؤاتٌ نفسيةٌ ومرضيةٌ، تجعلُ الصوفيَّ يتصورُ أمورًا لا وجودَ لها في الواقعِ، ويعتقدُ أنها مِنَ الكراماتِ، وهيِ في الحقيقةِ مِنَ الهلوساتِ عندما يكونُ الصوفيُّ في حالةِ جذبٍ واضطرابٍ بسببِ شدةِ الجوعِ وقلةِ النومِ، أوْ بسببِ تناول المخدراتِ، بالنسبةِ للصوفيةِ الذينَ كانوا يتعاطونها.

ومنها: ما هوَ مِنْ تلبيساتِ الجنِّ أوْ الشياطين، وليستْ كراماتٍ شرعيةً، بحكمِ أنَّ الكراماتِ إنْ حدثتْ فهيَ  للمؤمنينِ الأتقياءِ الصادقين الملتزمين بشريعةِ اللهِ دونَ غيرِهم.

وبما أنَّه سبقَ أنْ بيَّنَّا أنَّ التصوفَ مخالفٌ للشرعِ في أصولِه وفروعِه وغاياتِه، بَلْ وهادمٌ له، فلا يمكنُ أنْ تكونَ لأتباعِه كراماتٌ صحيحةٌ شرعيةٌ، وإنْ فَرَضْنَا جدلًا أنَّ بعضَهم حَدَثَتْ له كراماتٌ فلكونِهم ليسوا صوفيةً حقيقةً، وإنما همْ زهادٌ أتقياءٌ انتموا إلى التصوفِ ويعيشونَ في هوامشِه، ولا يتعقدون أصلًا به كدينٍ له أصولُه وفروعُه وغاياتُه، وأنَّه مُعَطِّلٌ وعادمٌ لدينِ الإسلامِ.

عِلْمًا بأنَّ الكرامةَ الشرعيةَ - كمَا أنَّه لا ينالُها إلا المؤمنون الأتقياءُ - فهيَ أيضًا ليستْ تصرفًا في الكونِ ولَا خرقًا لسننِه، وإنما هيَ نفسُها مِنْ سننِ الإيمانِ والتقوى، ومِنْ رزقِ اللهِ تعالى، يرزقُ بها عبادَه الصالحين في الأوقاتِ التي يكونون فيها فِي أَمَسِّ الحاجةِ إليها.

بدليلِ قولِه - سبحانه وتعالى -: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [يونس: 62 - 64].

وقولِه تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2-3].

وقولِه تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].

ورابعًا: ففيما يخصُّ أسنايدَ رواياتِ الكراماتِ الصوفيةِ، فهيَ كلُّها غيرُ صحيحةٍ، بِحُكْمِ أنَّ رواتَها ضعفاء؛ لأنَّ الصوفيةَ ليسوا ثقاتٍ، لأنهم يقولونُ بالتقيةِ، وتعمدوا مخالفةَ الشرعِ والعقلِ والعلمِ انتصارًا لتصوفِهم كمَّا سبقَ أنْ بَيَّنَّاه، وَمَنْ هذا حالُه لا يوثقُ بِهِ، ولا يُحْتَجُّ بِهِ، ولا يصحُّ الاعتمادُ على مروياتِه.

منها مثلًا إسنادُ الكرامةِ الصوفيةِ الثانيةِ عشرة: قالَ أبو بكر الكلاباذي: (قالَ أبو بكر القحطبي: كنتُ فِي مجلسِ شمنون)([5]).

إسنادُها لا يصحُّ لأنَّه منقطعٌ بينَ الكلاباذي وأبي بكر القحطبي، فهوَ لَمْ يُصَرِّحْ بالسماعِ، ونَقَلَ مِنْ دونِ ذكرٍ للواسطةِ بينهما، والقحطبي نفسُه الراجحُ أنَّه مجهولُ الحالِ؛ لأنِّي لم أعثرْ له على حالٍ جرحًا وَلَا تعديلًا.

وأمَّا إسنادُ الكرامةِ الصوفيةِ الرابعة عشر: قالَ الكلاباذي: (قالَ أبو بكر بن مجاهد: سمعتُ أحمدَ بن سنان العطار يقولُ: سمعتُ بعضَ أصحابِنا يقولُ: ...)([6]).

فهوَ لا يصحُّ لأنَّ الكلاباذي لم يُصَرِّحْ بالسماعِ ولا حَدَّدَ مصدرَ خبرِه، فالإسنادُ مِنْ جهتِه غيرُ متصلٍ، كما أنَّ مِنْ رجالِه: أحمد بن سنان العطار، الراجحُ أنَّه مجهولُ الحالِ، لأنِّي لَمْ أعثرْ على حالٍ جرحًا ولَا تعديلًا، ثُمَّ هوَ حَدَّثَ عَنْ مجهولِ العينِ وَالحالِ، فقالَ: (سمعتُ بعضَ أصحابِنا)، فمنْ هذا البعضُ؟! إنَّه مجهولٌ، فالإسنادُ لَا يَصِحُّ مِنْ طريقِه.

ومنها إسنادُ الكرامةِ الصوفيةِ الخامسة عشر: (قَالَ الكلاباذي: قالَ أبو عبدِ اللهِ محمد بن سعدان: سمعتُ بعضَ الكبراءِ يقولُ: ...)([7]).

وإسنادُها لا يصحُّ؛ لأنَّ الكلاباذي لم يصرحْ بالسماعِ ولا حدَّدَ مصدرَ الخبرِ، فالإسنادُ مِنْ جهتِه غيرُ متصلٍ، ولأنَّ عبدَ اللهِ محمد بن سعدان لم يحددْ الذي روى عنْه وسمَّاه "بعضَ الكبراءِ"، فهوَ بالنسبةِ إلينا مجهولُ العينِ والحالِ، ويبدو أنَّه تَعَمَّدَ عدمَ ذِكْرِ اسمِه لغايةٍ فِي نفسِه، ربما لإخفاءِ حالِ الرجلِ؛ وعليه فالإسنادُ لا يصحُّ مِنْ جهتِه.

وأما إسنادُ الكرامةِ الصوفيةِ السابعة عشر: قالَ القشيري: ‏(وكانَ أبو عبيد البسري إذَا كانَ أولُ شهرِ رمضانَ دخلَ بيتًا، ويقولُ لامرأتِه: طينِي عليَّ البابَ، وألقِ ‏إليَّ كُلَّ ليلةٍ مِنَ الكوةِ رغيفًا، فإذَا كانَ يومُ العيدِ فُتِحَ البابُ ...)([8]).

وإسنادُها منقطعٌ بينَ القشيري وأبي عبيد البسري؛ لأنَّ الأولَ لمْ يلحقْ بالثاني، وبينهما فارقٌ زمنيٌّ كبيرٌ، فالقشيري وُلِدَ سنة 376هـ، وتُوفي سنة 465هـ، والبسري تُوفيَ سنة 245هـ، فالإسنادُ لا يصحُّ مِنْ جهتِه.

ومتنُها باطلٌ بِلْ ومستحيل؛ لأنَّه لا يمكنُ عقلًا وواقعًا وَعِلْمًا أنْ يمتنعَ الإنسانُ عَن الأكلِ والشربِ والنومِ ثلاثينَ يومًا ولا يموت، ثُمَّ بعدَها يخرجُ إلى صلاةِ العيدِ.

فهوَ حتَّى إذا فَرَضْنَا جدلًا أنَّه لمْ يمتْ، فلا شكَّ أنَّه في غيبوبةٍ تامةٍ فاقدًا للوعي، ولا يمكنُه أبدًا حضور صلاةِ العيدِ، والحقيقةُ أنَّه مِنَ الجهلِ والغباءِ والحماقةِ قبولُ هذه الروايةِ وأمثالِها، وَمِنَ الجريمةِ فِي حَقِّ العقلِ والعلمِ تصديقُها.

وأمَّا ما رواه القشيري مِنْ كراماتِ الحارثِ المحاسبي: فالأُولى إسنادُها: (سمعتُ الأستاذَ أبا علي الدقاق - رحمهُ اللهُ تعالى - يقولُ: كانَ الحارثُ المحاسبي ...)([9]).

إسنادُها لا يصحُّ؛ لأنَّه منقطعٌ بينَ أبي علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري المُتوفى سنة 405هـ، وبينَ الحارث المحاسبي المُتوفى سنة 243هـ.

والثانيةُ إسنادُها: قالَ القشيري: ‏(ويُحكى عنْ الجنيد أنَّه قالَ: مَرَّ بي يومًا الحارثُ المحاسبي، فرأيتُ فيه أثرَ الجوعِ ...)([10])، وإسنادُه لا يصحُّ لأنَّه منقطعٌ بينَ القشيري والجنيد؛ لأنَّه لمْ يدركْهُ، ولأنَّه روى الخبرَ مِنْ دونِ ذِكْرِ مصدرِه، ورواه بصيغةِ التمريض: "يُحْكَى".

ومنها إسنادُ الكرامةِ الصوفيةِ الثامنةِ: قالَ أبو نعيم الأصبهاني: ‏(حدَّثَنَا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري، ثنا عبد الله بن محمد العطشي، ثنا أبو حفص عمر بن محمد ‏بن الحكم النسائي، قالَ: حدثني محمد بن الحسين البرجلاني، قالَ: حدثني حسين بن محمد الشامي، قالَ: ‏سمعتُ ذا النون يقولُ: ركبنا في البحرِ نريدُ مكةَ ...)([11]).

إسنادُها لا يصحُّ؛ لأنَّ مِنْ رجالِه أبا نعيم الأصبهاني، بَيَّنَّا سابقًا أنَّه ضعيفٌ.

وأبا حفص عمر بن محمد بن الحكم، قالَ النسائي: (تَرجمَ له الخطيبُ البغدادي، وقالَ: كانَ صاحبَ أخبارٍ وَحكاياتٍ وأشعار، وَلَمْ يذكرْ فيه جرحًا ولا تعديلًا)([12]).

ومحمد بن الحسين البرجلاني قالَ الذهبي: (لا بأسَ بِهِ، ما رأيتُ فيه توثيقًا وَلَا تجريحًا، وذكرَهُ ابنُ حبان في الثقاتِ)([13])، لكن توثيقَ ابنِ حبان لا يُعَوَّلُ عليه لتساهلِه في التوثيقِ، ولأنَّ متنَ الروايةِ منكرٌ جدًّا.

وحسين بن محمد الشامي: يبدو أنَّه مجهولٌ، فلمْ أعثرْ له على ترجمةٍ، ولا على حالٍ، جرحًا ولا تعديلًا.

ومنهم: ذو النون المصري، واسمُه: ثوبان بن إبراهيم الأخميمي المصري، أحاديثُه عَنْ مالك فيها نظرٌ، لمْ يكنْ يُتْقِنُ الحديثَ، سمَّاهُ أهلُ ناحيتِه بالزنديق، ضعيفُ الحديثِ([14]).

وبما أنَّه كذلكَ، فإذا أَضَفْنَا إليه تصوفَه وأحوالَه الغريبةَ، فإنَّ الرجلَ لا يصحُّ الاعتمادُ عليه ولا تصديقُه فيما يرويه مِنْ أباطيل وَخرافاتٍ وَغرائب.



([1]) رواه البخاري، (1043).

([2]) الطبقات الكبرى، الشعراني، ص(380).

([3]) الرسالة القشيرية، (2/503).

([4]) سير أعلام النبلاء، الذهبي، (18/368)، (20/167)، (2/101).

([5]) التعرف لمذهب أهل التصوف، الكلاباذي، ص(177).

([6]) التخريج السابق.

([7]) المصدر السابق، ص(178).

([8]) الرسالة القشيرية، (2/535).

([9]) المصدر السابق، (1/51).

([10]) التخريج السابق.

([11]) حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني، (10/176).

([12]) تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، (11/213).

([13]) لسان الميزان، ابن حجر، (5/105)، (459).

([14]) المصدر السابق، (2/312)، وسير أعلام النبلاء، الذهبي، (11/532)، رقم (153)، وتاريخ الإسلام، له، (18/266).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الردُّ على كراماتِ شيوخِ الصوفيةِ (1).doc doc
الردُّ على كراماتِ شيوخِ الصوفيةِ (1).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى