مقام النبوة والولاية عند الصوفية

مقام النبوة والولاية عند الصوفية



د.  المرابط الشنقيطي
النبوة: خبر خاص يكرم الله به من يصطفيه من عباده ليطلعه على شريعته بما فيها من الأوامر، والنواهي، والوعظ، والإرشاد، والوعد، والوعيد([1]).
وهذه الرسالة سفارة العبد بين الله تعالى وبين ذوي الألباب من خلقه ليصلح بها مناحي حياتهم، ومصالحهم الدنيوية، والأخروية([2]).
أما الولاية فهي: ( مرتبة في الدين عظيمة، لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهراً وباطناً )([3]).
وقيل: الولاية في الشرع هي: الإيمان والتقوى([4])، وللولاية الصحيحة جانبان:
أ‌-       جانب يتعلق بالعبد، وهو قيامه بأوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه، ثم التدرج في مراقي العبودية بالنوافل، وشتى صور العبادات.
ب‌-  وجانب يتعلق بالله سبحانه وتعالى، وهو محبة هذا العبد، ونصرته، وهدايته، وتثبيته على الهداية.
قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، هذه من جانب الرب سبحانه وتعالى،: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، وهذه من جانب العبد([5]).
 
وذكر الإمام ابن كثير أن الأولياء هم الذين جمعوا بين الإيمان، والتقوى، كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقياً كان لله ولياً([6])؛ ولهذا قال الإمام الشافعي: ( إذا لم يكن العلماء أولياء فليس لله تعالى ولي )([7]).
وقد نظم هذا المعنى المختار بن بونة الجكني رحمه الله([8]) في كتابه الوسيلة، فقال([9]):
والأولياء المؤمنون الأتقياء             فالعلماء العاملون أولياء
فكل من اتقى الله تعالى مؤمناً فهو من أولياء الله تعالى، وقد دخل في الآية، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي([10]). فالولي الذي يوالي عبادته، وطاعته تجري من غير أن يتخللها عصيان مقصود من شروطه:
1-    أن يكون عالماً بأصول الدين حتى يفرق بين الخالق والمخلوق، وبين النبي، والمتنبئ.
2-    وأن يتصف بالأخلاق الحميدة التي دل عليها الشرع، والنظر من الورع عن المحرمات؛ بل والمكروهات، وامتثال الأوامر الشرعية، وإخلاص العمل لله تعالى.
3-    وأن لا يتعلق قبله بما سوى الله تعالى.
4-    وأن يكون حسن المتابعة للنبي ص  والاقتداء بسنته في كل صغيرة، وكبيرة.
5-    وأن يلازمه الخوف أبداً، ويحتقر نفسه سرمدا، وأن ينظر إلى الخلق بعين الرحمة، والنصيحة، وأن يبذل جهده في مراقبة محاسن الشريعة وتطبيقها، ومطالعة عيوب النفس وآفاتها، والوجل من سوء الخاتمة([11]).
يقول العلامة شهاب الدين الآلوسي: ( وأحسن ما يعتمد عليه في معرفة الولاية اتباع الشريعة الغراء، وسلوك المحجة البيضاء، فمن خرج عنها قيد شبر بعُد عن الولاية بمراحل، فلا ينبغي أن يطلق عليه اسم الولي، ولو أتى بألف ألف خارق، فالولي الشرعي اليوم أعز من الكبريت الأحمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله:
أما الخيام فإنها كخيامهم           وأرى نساء الحي غير نسائها([12]).
ومهما بلغ الولي –الولاية الشرعية- من الصلاح، والفلاح، ومهما ترقى في منازل الولاية حتى يبلغ ذروتها فإنه لا يبلغ منزلة النبوة، ولا يقاربها، ولا يزاحمها.
وإذا كان الصوفية يؤمنون بالنبوة حسب تعريفنا السابق في الجملة؛ فإنهم نظروا إلى الولاية نظرة مخالفة للشرع، ومصادمة للنص، فجعلوها دائرة يدخل فيها التقي، وغير التقي، فكل من ظهر على يديه أمر خارق للعادة، أو زعموا أن فيه سراً إلهياً أو انتسب إلى سلسلة المشايخ، أو أرباب الطرق فهو الولي عندهم الذي تولى الله تعالى أمره وجعل فيه سره، فهو مطلع على ملكوت السموات، مشاهد للأفعال، والصفات؛ ولهذا عرفوا الولاية بأنها ( قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه، والولي: هو من توالت طاعته من غير أن يتخللها عصيان، أو من يتوالى عليه إحسان الله، وإفضاله، وهو العارف بالله، وصفاته، بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات، المجتنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات، والشهوات)([13]).
وقد سئل شيخ الطريقة التجانية عن الولي فقال: ( الولي: من تولى الله أمره بالخصوصية، مع مشاهدة الأفعال، والصفات)([14]).
وهذا التعريف الغامض للولي ما هو سره؟ ( السر في غموض تعريف القوم للولي هو احتكارهم للفضائل كي لا تكون لغيرهم من سائر المؤمنين، والمسلمين، وبذلك تختص الولاية بمشايخ الطرق، المأذون لهم في إعطاء الورد، والتربية الخلوية، ومن هنا كان الولي عند الصوفية لا يعرفه إلا الخواص، أما عامة المسلمين فلا سبيل لهم إلى معرفة الولي، يشهد لهذه الحقيقة ويقررها ما يلي: سئل التجاني عن الله تعالى، وعن الولي أيهما معرفته أصعب؟ فقال: معرفة الولي أصعب من معرفة الله تعالى.
وأبعد المرسي([15]) -وهو من أئمة الصوفية- في تعريف الولي حتى قال: إن الولي لو كشف للناس لعبدوه؛ لأن حقيقة الولي أنه يسلب من جميع البشرية ويتحلى بالأخلاق الإلهية ظاهراً وباطناً، ولذا لو كشف الولي للعبد لعبده، وقالوا: إن دائرة الولي أوسع من دائرة النبي، وهذا تفضيل منهم للولي على النبي بأسلوب خفي )([16]).
وتراهم يعظمون من شأن الولاية ويهولون من أمر الولي حتى قالوا: ( من ادعى أنه ولي يموت كافراً –والعياذ بالله- والحكاية التالية تكشف لنا عن مدى بعد الولاية في اعتقاد القوم واحتكارهم لمنصبها ومقامها.
قال الشيخ أحمد التجاني في رجل لا يمشي إلا ساتراً وجهه – قال: ولعله بلغ مرتبة الولاية؛ فإن من بلغها يصير كل من رأى وجهه لا يقدر على مفارقته طرفة عين، وإن فارقه، وانحجب عنه مات لحينه، وحسبك –أخي المسلم- بهذا التعريف للولي من تعريف إنه سخرية وهزء بعقول المؤمنين)([17]).
ويروون عن الشيخ البدوي أنه كان يلقب بذي اللثامين؛ لأنه كان يتلثم بلثامين، فقال له رجل من مريديه: أرني وجهك، فقال له البدوي: كل نظرة برجل! فقال: أرنيه، ولو مت، فكشف البدوي وجهه فمات الرجل لحينه([18]).
ويقول السرهندي مبيناً مقام النبوة والولاية عندهم، وأنه يصح أن يشارك الولي النبي فيصبح لابساً للوشاحين، ومتربعاً فوق المقامين فيقول: ( ينبغي أن يعلم أنه يصح أن يصل شخص من طريق قرب الولاية إلى قرب النبوة، ويكون شريكاً في كلتا العاملتين، ويعطى محلاً هناك – أيضاً- يتطفل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويجعل معاملة كلا الطرفين مربوطة به.
ليس على الله بمستنكر           أن يجمع العالم في واحد
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)([19]). إذن لم يقف الصوفية عند تعظيم الأولياء، وادعاء الحفظ لهم، والعصمة، بل زادوا في الخرافة، وتنقيص الأنبياء، فادعوا أن مرتبة الولاية أعلى من مرتبة النبوة. وفي هذا يقول ابن عربي([20]):
مقام النبوة في برزخ  ***  فويق الرسول ودون الولي
وقال أيضاً([21]):
بين الولاية والرسالة برزخ  *** فيه النبوة حكمها لا يجهل
ويصرح ابن عربي بهذا المعتقد –وهو اعتقاد غلاة الصوفية- فيقول: ( ولما مثل النبي ص النبوة بالحائط من اللبن، وقد كمل سوى موضع لبنة، فكان ص تلك اللبنة غير أنه ص لا يراها كما قال – لبنة واحدة، وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثل به رسول الله ص ويرى في الحائط موضع لبنتين، واللبن من ذهب، وفضة، فيرى اللبنتين اللتين تنقص الحائط عنهما، وتكمل بهما لبنة ذهب، ولبنة فضة، فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين، فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين، فيكمل الحائط!)([22]).
ويقول التجاني: ( إن لنا منزلة عند الله تناهت في العلو عند الله تعالى إلى حد يحرم ذكره )([23]).
فالولاية –عند الصوفية- أعظم قدراً، وأعلى شأناً من النبوة، وخاتم الأولياء هو الذي يستمد منه سائر الأولياء، وحتى الأنبياء، والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء؛ لأن ولاية الرسول أعلى من نبوته، فالرسول من حيث هو ولي أتم من حيث هو نبي رسول؛ لأن النبوة، والرسالة منقطعة، وأما الولاية فلا تنقطع ابداً.
يقول ابن عربي: ( واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام؛ ولهذا لم تنقطع ولها الإنباء العام، وأما نبوة التشريع، والرسالة فمنقطعة ...، والرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم من حيث هو نبي رسول)([24]).
ويرى بعض غلاة الصوفية أن كلمة (الولاية) قد تعني الربوبية، ويستدل على هذا الرأي بقول الله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44]([25]).
فخاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك([26])؛ بل ( خاتم الأولياء مثل خاتم الأنبياء، وقد يفضله؛ لأنه الولي الرسول، النبي، وخاتم الأولياء)([27]).
وتبدو الولاية كاملة في نظر الصوفية –عندما تصبح قوى الكون مسخرة للولي بقوة روحانية فيصبح قادراً على إتيان المعجزات، والخوارق، والإخبار بالمغيبات، والتلقي من الهواتف، والنطق بالسريانية دون تعالم، ويرى الولي نفسه في منزلة، أو مقام لا يمتنع فيه عليه عسير، ولا يستحيل أمام إرادته أمر؛ حتى إنه يقول للشيء: (كن فيكون!). وطريق الوصول إلى مقام الولاية هو العلم اللدني الذي يزعمون أن الولي يتلقاه عن الله تعالى بلا واسطة([28]). ويزعمون أن من الكرامة أن تفاض على الولي جميع الأسرار، والعلوم فيضا([29]).
ومن موازناتهم بين الرسالة، والنبوة، والولاية، أو القطبانية –كما يسمونها- قول بعضهم: ( فليس يظهر الكمال صورة، ومعنى، وحسا، بريئا من النقص بكل وجه، وبكل اعتبار إلا في ثلاث مراتب فقط، لا ما عداها، وهي: الرسالة لمن دخل حضرتها، والنبوة لمن دخل حضرتها، والقطبانية لمن دخل حضرتها، فإن هذه الثلاثة لا صورة للنقص فيها ... فإذا عرفت هذا فليكن المريد مع شيخه كما هو مع نبيه ص في التعظيم، والمحبة، والاستمداد، والانقطاع إليه بالقلب، فلا يعادل به غيره في هذه الأمور، ولا يشرك معه غيره)([30]).
ولعل السبب في هذه النظرة الخرافية لمقام الولاية، والغلو الزائد في الولي هو تهيئة الشيخ الصوفي لمنصب الخلافة الربانية، وتجويز جعله واسطة بينهم، وبين الله تعالى؛ لأن من سمت منزلته وعلا مقامه فوق منزلة النبوة، ومقام الرسالة –من كان هذا شأنه- كيف لا يكون واسطة؟ وكيف لا يتوجه إليه المذنبون، والخاطئون، والمحتاجون، يستمدون منه الفيوضات، ويسترفدون منه الهدايا، والأعطيات؟! من أجل ذلك كله جعلوا هؤلاء الأولياء واسطة بينهم، وبين الله تعالى.
يقول أحمد التجاني –شيخ الطريقة التجانية-: ( اعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقاً في جميع الوجود جملة، وتفصيلاً، حيثما كان الرب إلها كان هو خليفة في تصريف الحكم، وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى، ثم قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق، فلا يصل إلى الخلق شيء كائناً من كان من الحق إلا بحكم القطب، وتوليه، ونيابته عن الحق في ذلك، وتوصيله كل قسمة إلى محلها، ثم قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة من ذرات الوجود جملة وتفصيلاً، فترى الكون كله أشباحاً لا حركة لها، وإنما هو الروح القائم فيها جملة وتفصيلاً)([31]).
وهذا القطب –الخرافة- له (ثلاثمائة وست وستون ذاتاً إحداها([32]) بمكة المشرفة لا يخرج منها ما دام حياً، والذات الترابية حيث أراد الله تعالى من البلاد ... وفرق في هذه الذوات باعتبار ما يختص به كل منها، وأي ذات اختصت بشيء من الترقيات، والتجليات، والفتوحات، والأسرار وغيرها في بلد، فذلك الاختصاص سار لجميعها)([33]).
والأولياء –عموماً- ترد عليهم أحوال يشاهدون فيها ملكوت السموات والأرض، وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات([34]).
والأولياء عند الصوفية بعضهم أعلى من بعض، وفي صراع دائم على القطبية، والبرزخية، والخلافة العظمى، والختمية، فشيخ التجانية لما سمع المقالة الشهيرة عن الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهي أنه قال: ( قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى ) نهض وكان متكئاً، فاستوى جالساً، ومد رجليه، وقبض عليهما بيديه.
وقال الشيخ عبد القادر قال ذلك في أولياء زمانه، وأنا أقول: (قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم عليه السلام إلى النفخ في الصور ).
وسبب ذلك كما يقول أحد مريديه وأتباعه: أن جميع الكمالات، والكرامات، والخصائص التي نالها أحد من العارفين المقربين فقد أعطاها الله تعالى لهذا الولي التجاني، ومنه تفيض على سائر أولياء الله تعالى من أجل ذلك خضعت له من جميع الأولياء الأعناق، وأذعنوا لمقامه في عوالم الغيب بالإطباق، فهو القطب المكتوم، وهو الواسطة بين الأنبياء، والأولياء، فكل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور لا يتلقى فيضا، ولا يجد مدداً من حضرات الأنبياء إلا بواسطته من حيث لا يشعرون، ومدده الخاص يتلقاه من خاتم النبيين ص، ولا اطلاع لأحد على فيضه الخاص([35]).
وعند مقارنة قول الجيلاني، والتجاني في قيادة الأولياء نجد أن الجيلاني قيد الحكم بأولياء زمانه ومع ذلك قيل إنه ندم عند وفاته على هذا القول، ووضع خده على الأرض([36])، أما التجاني فقد أطلق الحكم، وادعى ما لا دليل عليه من الشرع أو الطبع([37]).
ولبيان حقيقة النبوة، والولاية عند الصوفية نجد أنهم لم يجعلوا إدراك حقيقة النبوة مقصوراً على الأنبياء وحدهم؛ بل يرون أن أي إنسان يملك أنموذجاً من خاصية النبوة، وهو ما يدرك أثناء النوم.
يقول الغزالي([38]): ( وأما ما عدا هذا من خواص النبوة فإنما يدرك بالذوق من سلوك طريق التصوف)([39]).
ويذهب الغزالي إلى أن الأولياء يدركون خاصية النبوة في تلقي الوحي والإلهام مثل سائر الأنبياء، حيث يقول: ( بل قد تتمثل للأنبياء، والأولياء في اليقظة والصحة صورة جميلة محاكية لجوهر الملائكة وينتهي إليهم الوحي والإلهام فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم، وذلك لشدة صفاء باطنهم)([40]).
هكذا يرى الغزالي –وهو الإمام الحجة عند الصوفية- أن مقام الولاية مزاحم لمقام النبوة؛ ولذلك نجده كثيراً ما يقرن اسم الأولياء مع الأنبياء فيما يتعلق بالوحي والإلهام والكشوفات([41]).
(ولعلك تلحظ –بعد كل ما ذكرته لك- أن ما يدعيه الغزالي من الكشوفات الصوفية إنما هو انتقاص من مرتبة النبوة، ودعوة عامة للجميع إلى تسلقها، وارتقائها، وهذا الرأي له خطورته التي تفوق خطورة الرأي الباطني القائل بفيضان العلوم الموحاة إلى الإمام المعصوم؛ حيث إن عدد الأئمة الموحى إليهم –عند الباطنية- لا يتعدى اثني عشر إماماً؛ أما عدد الأولياء الذي يتلقون العلوم الكشفية فإنه لا حصر له ألبتة؛ إذ باب الوحي مفتوح على مصراعيه، وما عليك إلا أن تصفي قلبك من الكدورات، وتنقيه من المعاصي، ثم تخلو بنفسك في زاوية، وتفتح عين الباطن جاعلاً قلبك في عين الملكوت حتى تنفتح لك تلك الطاقة، وتظهر لك أرواح الملائكة، والأنبياء، والصور الحسنة الجميلة الجليلة، فينكشف لك ملكوت السموات والأرض، وترى ما لا يمكن وصفه ولا شرحه)([42]).
ومع ذلك فإن الصوفية لا يسمحون بفتح باب الولاية لكل أحد؛ بل يجعلون الدخول من هذا الباب لصفوة خاصة من الناس مختارة.
يقول المستشرق نيكولسون([43]): ( ولكن ليس معنى هذا أن جميع الصوفية أولياء؛ فإن الأولياء ليسوا في الحقيقة إلا طائفة قليلة من خواص أهل الله من الرجال، والنساء الذين وصلوا إلى أعلى مراتب الأحوال الصوفية، وهم من حيث صلتهم بالله بمثابة المرايا التي تنعكس عليها صورة الذات الإلهية، أو المجالي التي يتجلى الله فيها للخلق)([44]).
وللأولياء عند الصوفية حكومة باطنة تتصرف في الكون وتحفظ عليه نظامه، ويتزعمها القطب، وتحته: النقباء، والأوتاد، والأبرار، والأبدال، أو البدلاء، ويزداد كل صنف من هذه الأصناف بحسب درجة بعدهم من القطب، وهذا التصرف لمقام الأولياء ربما أخذته الصوفية عن الشيعة، أو الإسماعيلية([45]).
ويرى المستشرق نيكو لسون أن المعتدلين من الصوفية يعتقدون أن النبي محمداً ص فوق كل ولي مهما سمت درجته، وعلت مكانته، أما غلاتهم القائلون بوحدة الوجود، والصوفية الذين ينكرون الوحي، ويكفرون بالأديان السماوية فيرون أن مقام الولاية أرفع قدراً، وأعلى شأناً من مقام النبوة([46]).
وما ذكره هذه المستشرق وجدنا من الصوفية من يصرح به، فالسرهندي من علماء الصوفية –صرح بالمقام الصحيح للولاية حيثذكر أنه ينبغي أن يعلم أنه ما من مسألة اختلف فيها العلماء، والصوفية، ولوحظ فيها حق الملاحظة إلا وجد الحق فيها في جانب العلماء، وسر ذلك: أن نظر العلماء بواسطة متابعة الأنبياء عليهم السلام نافذ إلى كمالات النبوة، وعلومها، ونظر الصوفية مقصور على كمالات الولاية ومعانيها؛ فلا جرم إذن أن يكون العلم المأخوذ من مشكاة النبوة أصوب، وأصفى، وأصح من العلم المأخوذ من مرتبة الولاية، والمجاهدة، ثم أعلن قائلاً: (فلاح من هذا التحقيق أنه لا يبلغ ولي قط درجة نبي من الأنبياء عليهم السلام بل يكون رأس الولي تحت قدم نبي على الدوام)([47]).
ويقول الدباغ: ( وقد غلط بعض الأولياء من أهل الفتح فظن أن الولي العارف الكبير قد يبلغ مقام النبي في المعرفة، وإن كان في الدرجة لا يصله، وهذا الذي ظنوه غلط مخالف لما في نفس الأمر، والصواب أن الولي، ولو بلغ في المعرفة ما بلغ لا يصل إلى ما ذكروه، ولا يقرب منه أصلاً)([48]).
وهذا من الحق الذي نطق به هذان الصوفيان وبمقارنته مع ما سبق نقله عن الصوفية وبيان رفعهم لمقام الولاية وتنقيصهم للأنبياء عليهم السلام وخدشهم لمقام النبوة نستخلص أن مناهجهم مضطربة، وأقوالهم متناقضة بسبب بعدهم عن الكتاب والسنة وعدم التقيد بهما، وكل منهج لا يستمد قواعده من الوحي فالاضطراب صفة ذاتية من صفاته، والتناقض سمة بارزة من سماته، والتخبط نتيجة حتمية من نتائجه؛ إذ كيف يعد كل من ظهرت منه مكاشفات أو تصرفات شيطانية يعد بمجرد ذلك ولياً من أولياء الله تعالى؟ (فكيف إذا علم منه ما ينقاض ولاية الله؛ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي ص باطناً وظاهراً؛ بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقاً إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو يقول: إن الأنبياء ضيقوا الطريق، أو هم على قدوة العامة دون الخاصة، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان، فضلاً عن ولاية الله عز وجل، فمن احتج بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على ولايتهم كان أضل من اليهود والنصارى)([49]).
فالصوفية عندما نظروا إلى الأولياء نظرة غالية، وادعوا أنهم واسطة بينهم وبين الله تعالى لزم هذا الادعاء أمران: أحدهما: رفع مقام الولاية فوق مقام النبوة، والغلو في الولي، واعتباره محفوظاً، أو معصوماً إلى غير ذلك. وثانيهما: خدش مقام النبوة، والحط من منزلة الرسالة، وتنقيص الأنبياء، وجعل الأولياء في رتبة الأنبياء، وربما فضلوا خاتم الأولياء على جميع الأنبياء، والرسل عليهم الصلاة والسلام([50]).
ولعل السبب في شيوع هذا المفهوم الخاطئ لمقام الولاية بين الصوفية على تعدد طرقها هو أن (مقالة الزنادقة هذه كثيراً ما يسعى في ترويجها الفساق من المدعين للولاية، حتى يجدوا مسرح الشهوات واسع المجال بعيد ما بين الجوانب، وانسحبت على ذلك الأغبياء فلم يزنوا سيرة المدعي للولاية بميزان الشريعة، كمسألة التجاني التي تركت الشريعة البيضاء غير محصورة يمكن كل من أراد الإحداث فيها من المنتسبين إلى الطريقة الصوفية إحداث ما شاء إلى يوم القيامة، أن المنتسبين للعلم يهابون التعرض لكل من ادعى الولاية بحالة أو مقالة، وما ذلك إلا من ضعف البصيرة، وقلة الرسوخ في العلم، وعدم التحقق بحقائق الدين التي يضمحل أمامها كل باطل، وتسقط تجاهها كل دعوى كاذبة كما كان عليه سلف هذه الأمة، وخلفها من الإنكار على كل من أدخل في دين الله تعالى ما ليس منه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون)([51]).
ولانتشار الطرق الصوفية في ربوع العالم الإسلامي –إلا ما رحم ربي- أصبح مفهم الولي عند عامة الناس اليوم ( هو إما من انتصب للإذن بالأوراد الطرقية ولو كان في جهله بدينه مساوياً لحماره، وإما من اشتهر بالكهانة وسموه –حسب اصطلاحهم- مرابطاً ولو تجاهر بترك الصلاة، وأعلن شرب المسكرات، وإما من انتمى إلى مشهور بالولاية، ولو كان إباحياً لا يحرم حراماً، وحق هؤلاء الأولياء الجزم بولايتهم، وعدم التوقف في دخولهم الجنة، ثم الطاعة العمياء، ولو في معصية الله، وبذل المال لهم، ولو أخل بحق زوجته، وصبيته، والثقة بهم، ولو خلوا بالخرد العين، بعد فهم المطلوبون في كل شدة، ولكل محتم بهم عدة، وهم حماة للأشخاص، والقرى، والمدن، كبيرها، وصغيرها، حاضرها، وباديها، فما من قرية بلغت ما بلغت في البداوة، أو الحضارة إلا ولها ولي تنسب إليه فيقال: سيدي فلان هو مولى البلد الفلاني، ويجب عند هؤلاء الناس – أن يكون علماء الدين خدمة لهؤلاء الأولياء، مقرين لأعمالهم، وأحوالهم، غير منكرين لشيء منها، وإلا أوذوا بضروب السباب، ومستقبح الألقاب)([52]).
ومظاهر الولاية –عند الصوفية- تعتمد على قذارة الثياب، واختيار لون خاص من الألوان، وإطالة شعر الرأس، ولباس الخرقة، والمرقعة، والتشرد في الأرض، وذهول الولي عن نفسه وفساد نفسه، ونكران وجوده([53]).
فتبين –من هذا التحقيق- أن الصوفية نظروا إلى الولاية نظرة ذوقية، غالية، بعيدة عن نظرة الشرع، فرفعوا من مقامها إلى حد لا يعتقده العاقل، ثم تناهوا في الرفع من شأنها، ومقامها حتى جعلوها فوق مقام النبوة، ومنزلة الرسالة؛ ليبنوا على ذلك معتقدهم الفاسد في الأولياء، وجعلهم واسطة في دعاء الله تعالى، وندائه، ورجائه، وربما انقطعوا عن الله تعالى إلى هؤلاء الوسائط من الأولياء، استمداداً، واسترفاداً، واستغاثة، واستعانة. وإذا ما وزنا نظرة الصوفية هذه بميزان الشرع وجدناها باطلة؛ لأنها بنيت على باطل. والله تعالى أعلم.


الهوامش

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى