عقيدة الوحدة عند مؤسس الطريقة العيدروسية

عقيدة الوحدة عند مؤسس الطريقة العيدروسية






الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد:
ففي المناطق الجنوبية من أرض اليمن انتشرت الطرق الصوفية بكثرة، ومن أبرزها الطريقة العلوية والعيدروسية، وفي هذا المقال البسيط نستعرض أبرز رجال الطريقة العيدروسية بل مؤسسها وما يقوله في كتبه في عقيدة الوجود الكفرية، حتى يعرف القارئ الكريم حقيقة هذه الطريقة.
قال عبد الله بن أبي بكر العيدروس([1]):
...فمن فني عن أفعال نفسه فهو باقٍ بأفعال الله، ومن فني عن صفاته فهو باقٍ بصفات الله تعالى، ومن فني عن ذاته فهو باقٍ بذات الله تعالى، كما قال بعضهم:
وقوم تاهوا في أرض بقفر                    وقوم تاهوا في ميدان حبه
فأفنوا ثم افنوا ثم أفنوا               وأبقوا بالبقاء بقرب ربه
فالأول كما قالوا: فناء صفاته لبقاء صفات الحق، ثم فناؤه عن صفات الحق بشهود الحق، ثم فناؤه عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق، وهو فناء الذات في الذات، وهذه حقيقة {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ...} [الأنعام:91] الآية([2]).
وقال: فصل في حقيقة عالم التوحيد المبني على التفريد بعد أداء حق التجريد:
وهو أن يفردك الحق بفردانيته، عند استيلاء سلطان الذكر، حتى تخرج من قشور الحروف والصوت، فتفنى بسطوة بقية وجودك الذاكر، وبقية سلطنة إثباته، فثبوت المذكور عن الذكر بدوام الذكر على مقتضى قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، فيصير حينئذ الذاكر مذكوراً والمذكور ذاكراً، ويستبدل الأين بالعين، والمباينة بالمعاينة، والأنية بالوحدانية، وفني عن نفسه وعن غيره بالكلية في عين جمع الجمعية، فشاهد الذات الحقيقة الصمدية المنزهة عن الجسمية الكثيفة واللطيفة وتوابعها ولوازمها بالكلية، ولا يرى إلا الواحد الحق أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] هذا توحيد خواص الخواص.
...فالجذبة تبعده عن أنانيته وتقربه لهويته، إلى أن تورث الجذبة المشاهدة، فالمشاهدة أحضرته معه وغيبته عنه، إلى أن ظهر بالعيان، فالعيان يسحقه والعين تمحقه، ثم يحققه الحق ويزهق باطله، فيكاشف بأنوار غيب الغيب، فيطالع أسرار الملك والملكوت، ويتيه في تيه العظموت والجبروت، حتى تتجلى له شمس الربوبية عن سماء العبودية، فأشرقت أرض البشرية بنور ربها، ويرقى في المقام إلى تلألؤ نور الألوهية المستفاد من الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، ثم نفحة الألطاف الربوبية، وانفتح في عين الشمس باب الهوية، وانغمس فيه المنغمس، ثم لا تسأل:
قد كان ما كان مما لا أفوه به                 فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
فاستضاءت الآفاق الجسدانية بضوء الشريعة، وظهرت المشكاة النفسانية بلوامع الطريقة، وتنورت الزجاجة القلبية بأنوارحقيقة الروحانية، وأشرق الصباح الروحية بنار نور الألوهية، وبدت شجرة الوحدانية، ونودي موسى السر: ((أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [القصص:30]، فانمحت الجهات، وتلاشت الصور، وانطمس الأبعاض، وانعدمت الأجزاء، وسطعت عزة الوحدانية بتجلي نور الصمدانية الربانية، فتدكدك جبل الإنسانية الروحانية صعقاً، فاحترقت الغيرية بنار الغيرة، وارتفعت الشركة وبقيت الوحدة، متعززاً برداء الكبرياء والعزة، متزراً بإزار العلاء والعظمة، وحده لا شريك له، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، هذا أوان {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، وهذا وقت {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] وهو سر {كنت له سمعاً وبصراً ولساناً، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق}، ولعمري إن هذا الحال من كوشف بأسرار {كنت كنزاً مخفياً} فلما كشف الغطاء، وذهب الجفاء، ودام اللقاء فـ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وللقلب ما زوى، فرعى في رياض المعرفة...إذ تجافى عن المحاط المطلق المحاط به غيب الغيب المحيط المطلق، فتحقق له: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54].
أبان الحق ليس به خفاء               وباح السر وانكشف الغطاء
فنفسي زائل والروح نادت                    فلم يبق التكبر والصفاء
بقاء الحق أفنانا فأفنى                  بقاء فنائنا، ذاك البقاء
تجلت سطوة الجبروت حتى                    فنينا ثم إذ فني الفناء
هذا مقام المعرفة بمشاهدة الحقيقة([3])...
* ملحوظات:
- هناك أخطاء مطبعية، نقلتها على شكلها الصحيح الذي يجب أن تكون عليه أنبه.
- الجملة: (ويستبدل الأين بالعين...والأنية بالوحدانية)، وردت في الكتاب: (.. و.. والأينية بالوحدانية)، وهي غلطة مطبعية.
- (المنزهة عن الجسمية الكثيفة واللطيفة)، وردت: (الكشفية واللطيفة..).
- (فالجذبة تبعده عن أنانيته وتقربه لهويته)، وردت: (...تبعده عن إنابته..).
- (فاحترقت الغيرية بنار الغيرة..)، وردت: (.. بنار الغيرية).
- (متزراً بإزار العلاء..)، وردت: (.. مترزاً..).
- (هذا أوان ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)) [الأنفال:17])، وردت: (هذا وإن رميت إذ رميت..). - (فلما كشف الغطاء..)، وردت: (فلما كوشف الغطاء..).
ويبرز لنا في هذا النص ما يلي:
أ- دور الجذبة في الصوفية، وأنها هي المطلب.
ب- ما يظهر للسالك أثناء الجذبة، وأن المشاهدة هي في الجذبة.
ج- وحدة الوجود التي يشاهدها في الجذبة.
د- عبارات تشير إلى وحدة الوجود وهي من عباراتهم التي يستعملونها.
هـ- كيف يفسرون بعض الآيات والأحاديث.
والرجاء من القارئ أن يتسلى بتحليل عبارات النص التي تشير كلها إلى وحدة الوجود.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
اقتبس هذا المقال من كتاب: (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ) للمؤلف: (محمود عبد الرءوف القاسم).

الهوامش

([1]) إمام أئمة الأولياء العارفين، مؤسس الطريقة العيدروسية، من مدينة (تريم) في حضرموت، مات فيها سنة (865هـ).
([2]) الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر من مجموعة (إيضاح أسرار علوم المقربين)، (ص:76).
([3]) الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر، من مجموعة (إيضاح أسرار علوم المقربين)، (ص:76، وما بعدها).

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى