إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛
فإنه يمكن إجمال عناصر المقارنة في التربية الدعوية بين التوحيد والوساطة في ثلاث قضايا، تتفرع عن كل قضية منها مسائل شتى، وذلك لنتبين مدى التقابل الحاصل بينهما من ناحية، واختلاف الآثار التربوية المترتبة عنهما، في مجال الإنتاج التربوي من ناحية أخرى.
أولًا: التربية بين المصدرية والمرجعية:
من أهم ما يلاحظ ابتداءً، في الفرق بين التربية التوحيدية، والتربية الوساطية، أن التوحيد يقوم في مادته التربوية، على النصوص الشرعية، فنصوص القرآن والسنة النبوية، هي المصادر الوحيدة للعمل التربوي، وهو ما أكده سيد قطب، رحمه الله، في وصفه للجيل القرآني الفريد، جيل الصحابة، حينما قال: "كان النبع الأول، الذي استقى منه ذلك الجيل، هو نبع القرآن، القرآن وحده. فما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه، إلا أثراً من آثار ذلك النبع"[1].
فالمصدرية الوحيدة، حينما تكون للقرآن والسنة، في المجال التربوي، تضمن السلامة من كثير من الأمراض التربوية، مما سوف نذكره بحول الله... فكتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، هما صمام الأمان، الواقي من الضلال، إذا أحسن توظيفهما بضوابطهما الشرعية، وقواعد تفسيرهما وفهمهما.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا، حتى يردا عليَّ الحوض»[2].
نعم لابد من اعتماد منابع أخرى للتربية، تساعد على فهم النصوص الشرعية، وفهم النفس الإنسانية، والمجتمع الإنساني، والواقع المتطور المتجدد إلخ، ولكن ليس باعتبارها مصادر، ولكن فقط باعتبارها مراجع، تساعد على تنزيل الحقائق الإسلامية، المستفادة من النصوص الشرعية، في النفس والمجتمع.
أما التربية الوساطية، فهي على عكس ذلك تماماً، تعتمد الفكر البشري في تربية الأفراد، باعتباره المنبع الأول للمفاهيم التربوية، سواء كان هذا الفكر ذوقاً صوفياً أو فهماً عقلياً. وإن كان ثمة من نصوص شرعية في هذه الوساطات، فلا تبلغ المتلقي في نسقها القرآني، أو الحديثي، ولكن في نسقها الصوفي أو العقلاني فالمصدرية ههنا إذن لا تكون للنصوص الشرعية، وإنما لأفهام المصلحين، والمربين، لهذه النصوص، وهذا هو عين الوساطة.
إن الحركة الإسلامية، حين تقرر برنامجاً تربوياً، تكون مادته هي كتب فلان، أو أذواق فلان، أو أوراده، باعتبارها المنبع الأساس، والمعتمد الأول في بناء الصف الإسلامي، تكون قد أضفت عليها أنواعاً من القداسة الشعورية لدى المتربين، من حيث تدري أو لا تدري وينتج عن ذلك، مرض تربوي خطير، يتمثل في نشأة جيل من الملتزمين بالإسلام، ليس كما هو في مصادره بالضرورة، ولكن كما فهمه المفكر الفلاني، أو كما تذوقه الشيخ العلاني! ومن هنا لايكون الإنتاج التربوي مضموناً، من حيث الاستمرارية، وعمق التأثير والتأثر، من ناحية، ومن حيث سلامة السير في طريق الالتزام بالإسلام. فهماً، وتنزيلاً، من ناحية أخرى.
فأما الأول، فذلك الفرد المرتبط بالمفاهيم الإسلامية، كما هي في نسقها الشرعي، هو فرد مرتبط بالله مباشرة، ولذلك فإن نزول هذه المفاهيم على قلبه، باعتبارها لَبِنَات في تكوين شخصيته الإسلامية، يكون عميقاً، بحيث يصعب انمحاؤه، واندثاره مع الزمن، ذلك أن للقرآن من حيث هو معان، ومن حيث هو عبارات معاً، قوة تأثيرية لا يمكن أن توجد في كتب الناس، وأفكارهم، وتذوقاتهم،ومواعظهم، فهو وحده المتعبد بتلاوته، حرفاً، حرفاً: "لا أقول (آلم) حرف، ولكن ألفُ حرف، ولامُ حرف، وميم حرف"[3].
وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لا عصمة لأي حديث سواء، مبنى ومعنى، فالرسول صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى كونه أفصح العرب،فهو وحده الذي لا ينطق عن الهوى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم:3-4].
فلنفرض أن الرسالة التربوية، التي نريد تبليغها في جلسة تربوية معينة، هي مفهوم (الخشوع)، فاعتمادنا لغرسه في قلب المؤمن على مادة مرجعية، كأن يكون ذلك من خلال كتاب الرعاية لحقوق الله للحارث المحاسبي، أو إحياء علوم الدين للغزالي، أو مدارج السالكين لابن القيم، أو حتى من خلال موعظة الشيخ الشفهية، أو ورده الذي وضعه للمريدين، فإن كل ذلك سيؤثر لا محالة، لكن التأثير يكون سطحياً، بحيث يغير من الحال لا من المقام، كما يعبر القوم، أي أنه تأثير ظرفي وشكلي، فهو لا يلامس البنية الداخلية في شخصية الفرد، ولا يساهم في تشكيلها البنيوي، ولكن يغير أحوالها الخارجية، فتحدث حالة (الخشوع)، التي لن تستمر طويلاً، ولن يكتسب بها صاحبها (مقام) الخشوع، ولكن (حاله) فقط.
أما إخضاع المتربي، لتكوين تربوي ينتظم النصوص، الواردة في هذا المفهوم، من القرآن والسنة، وحثه على مساهمته الشخصية في مدارستها، وتنبيهه إلى معانيها العميقة، وربطه مباشرة بذات الآيات المتضمنة لهذا المعنى، من مثل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
قلتُ: أما هذا المنهج، فهو كفيل بتشكيل معنى الخشوع، كجزء من شخصية الفرد الإيمانية، وذلك لما ذكرتُ من خصوصيات النص الشرعي عامة، والنص القرآني بصفة خاصة،ذي الطابع التعبدي المحض، وهذا أضمن لاستمرارية المفهوم التربوي في شعور الفرد، وممارسته فهو هنا مرتبط بنص قرآني، وهو نص ثابت لا يتغير، بمعنى أن الفرد كلما تذكر النص، بمناسبة أو غير مناسبة،إلا وفاض عليه من بركاته الجديدة، ما لم يجده فيه أول مرة ولا ثاني مرة.. وهكذا.
وأما كل ما عداه من مراجع، فهي مساعدة، تفيد في التأسي والاتعاظ الدافع إلى التزام النصوص الشرعية، المصادر الحقيقية للتربية، أما الاقتصار على المراجع فقط، للوصول إلى الهدف المذكور -ولو تضمنت بعض النصوص الشرعية - فإنه سيربط الفرد بالمرجعية، لا بالمصدرية، في نسقها الخالص، والمرجعية ههنا بشرية، نسبية، غير ثابتة، فهي -فضلاً عن احتمالها للخطأ والصواب - تحتمل التغير السلبي، بتغير أصحابها إلى وراء، نحو التحلل من الالتزام الإسلامي، جزئياً، أو كلياً،وهذا ما يكون له بالغ الأثر السيء على نفسية الفرد المرتبط بهذه الوساطات.
وأما الثاني - أي عدم ضمان سلامة السير في طريق الالتزام فهماً وتنزيلاً - فيتجلى في كون التربية المصدرية تربية شمولية، لأن الارتباط بالنصوص الشرعية لا يكون إلا كلياً، إذ بعضها يحيل على بعض، وبعضها يفسر بعضها الآخر.
فهي نسق كلي، يكون -باعتباره مادة تربية- منتجاً لتدين شمولي، لايقصر معنى العبادة على هذا الجانب أو ذاك، ولا على هذا المجال دون ذاك. فالتزام الإسلام تديناً، يكون كلياً، إذ يستشعر الفرد قصد التعبد، في كل فعل حركي، سواء كان في المجال النقابي،أو السياسي، أو الرياضي، أو الإداري، فضلاً عن المجال التعبدي المحض، بتعبير الفقهاء. وإنما يكون هذا ناتجاً عن فهم سابق للإسلام، من خلال مصادره ذات الطبيعة الشمولية.
بيد أن التربية المرجعية قلما تسلم من الفهم والتنزيل التجزيئييْن للدين، لأنها لاتخلو من أحد أمرين: إما أن الوسيط، مفكراً كان، أو شيخاً، هو نفسه يعاني من قصور في الفهم، وإما أنه لا يعاني من هذا القصور، ولكن يكون في كتاباته، وتوجيهاته، متأثراً، فيما يتعلق بالتنزيل العملي للدين، بالزمان والمكان، من حيث الأولويات الظرفية، لا المبدئية، ثم من حيث نقل المفاهيم من مصادرها، باعتبارها وسيطاً، يقوم بتلقينها للأفراد فإلى أي حد يكون دقيقاً، وجامعاً مانعاً، في نقله وأدائه؟ ثم إلى أي حد تبقى تلك المادة -وقد حَلَّتْ محل المصدر- صالحة للأجيال، بتمامها، وكمالها، رغم تغير الزمان والمكان؟
فالنتيجة إذن، هي أن التربية التوحيدية، باعتبارها ذات طبيعة مصدرية أساساً، أضمن لعمق التأثير التربوي، ودوامه، ثم لسلامة ما ينتج عنها من تدين تصوراً وممارسة.
وقبل ختام هذه القضية، لابد من التذكر بأن المصدرية لا تعني إلغاء المراجع، التي هي مفهوم الناس للتدين، تصوراً وممارسة، ولكنها تعني الإبقاء عليها، في سياقها المرجعي؛ حتى لا تكون لها أبداً السلطة المصدرية، ذات الطبيعة المطلقة، والتعبدية بمعناها المحض، بل تبقى باعتبارها مراجع، تتضمن تجارب دعوية، تفيد كأدوات إجرائية، لحسن الاستفادة من القرآن والسنة باعتبارهما مصدرين تربويين خاصة. وذلك هو السياق الحقيقي الذي يمكن للمرجع أن يفيد فيه، وأما رفعه إلى مقام المصدرية، فهو عين الخطأ، الذي يؤدي إلى الانصراف عن مصادر الإسلام، إلى أقوال الرجال، وأحوالهم.[4]
الهوامش:
[1] معالم في الطريق، ص12.
[2] روه الحاكم في مستدركه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 1761، وصحيح الجامع الصغير (2937).
[3] قال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفًا من كتاب الله، فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول {ألم} حرف..."، الحديث أخرجه في التاريخ والترمذي، والحاكم، وصححه الألباني (6469).
[4] التوحيد والوساطة في التربية الدعوية، (الجزء الأول)، د. فريد الأنصاري، كتاب الأمة، سلسلة دورية تصدر كل شهرين عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – قطر، العدد 47 جمادي الأول 1416هـ - السنة الخامسة عشرة، ص 44- 50.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.