حلية الغر المحَجَّلين ... د. فريد الأنصاري

حلية الغر المحَجَّلين ... د. فريد الأنصاري




إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أما بعد؛..
فإن هذه النافورة الرخامية البيضاء، التي يؤمها الناس في فناء المسجد، بقلوب يملؤها الشوق إلى حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرض على المؤمنين حليًا من النور البهي، فيتسابقون إلى تزيين وجوههم، وأيديهم إلى المرافق، ورؤوسهم، فأرجلهم إلى الكعبين، و"تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء"[1]، ذلك شرط المرور إلى عتبة الصلاة، إذ "لا تقبل صلاة بغير طهور"[2].

وتتقاطر أفواج المصلين على الماء؛ ليردوا من بعد عطش شديد، مما أصابهم من دخان المال والأعمال.. وتمتد الأيدي خاشعة، ذاكرة، يدفعها الحنين إلى ارتداء أوسمة الإيمان، طهورًا، ينقلهم مباشرة إلى مناجاة الرحمن، وإن "الطهور شطر الإيمان"، كلمة سر مودعة في كتاب الاستئذان من حديثك يا رسول الله!
وتدور الفصول من حر إلى قر، فيبقى الوضوء سرًا من أسرار الجمال، الذي ينسخ نوره آثار معركة الحياة، من سهام إبليس ورشقاته.

كانت كلمات النبوة بلسمًا، يوضع على الجروح فتشفى بإذن الله؛ فها أنا ذا يا حبيبي أرتحل إليك مخترقًا حدود الزمان والمكان؛ لعلي أصيب رذاذًا مما أصاب الصحابة الكرام، فجنبات المعمور ما زالت تردد أصداء النور النبوي:
"ألا أدلكم على ما يمحو به الله الخطايا، ويرفع به الدجات؟
قالوا: بلى يا رسول الله!
قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط!"[3].

والمكاره شتى في هذا الزمان الرهيب يا نبي الله! فهذا قر الشتاء أصبح اليوم خنقًا، بتوقيت تعده على ساعات الدرهم والوظيفة! ووثنية تفرضها أغلال الحلاقة واللباس! و(...) وأشياء أخرى من تقيين النساء، أكرمك عن ذكرها يا حبيب الله! ما سلمت منها عين، ولا خد، ولا يد، ولا رجل! فبأي حميء آسن امتلأت برك هذا العصر الغريب!

ألا هونًا عليك يا صاح! فما في الدنيا وسخ، أو درن لا يغسله أريج الطهور!

لكنما التحلي مقام ينبئ عن تمام التخلي! فهلم إذن، وات من أي الجهات أتيت، وبأي الأدواء ارتديت، فكل حفنة من الماء كفيلة بمسح بعض غبار الطريق!
أوليس "إذا توضأ العبد المسلم، أو المؤمن، فغسل وجهه؛ خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه، مع آخر قطر الماء!
فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه، مع آخر قطر الماء!
فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه، مع آخر قطر الماء... حتى يخرج نقيا من الذنوب"[4].
بلى يا رسول الله.
فما أبطأ بك إذن يا ولدي؟ هذي جموع المؤمنين سارعت إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم القيامة، يردون حوضه الكريم، بأوسمتهم النورانية:

كانت الخيل وهي مقبلة فأل خير، ترفع غررها البيضاء نحو سماء الانتصار، ولقوائمها المحجلة – وهي تباري الأسنة راكضة – جمال، لا يضاهيه إلا جمالها وهي تقف هادئة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلقي التحية، وتسلم الغنيمة.

فلتسبغوا الوضوء على المكاره إذن سادتي الأتقياء

فإنكم "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله"[5]، تلك سيم الجمال في وجوهكم، وأطرافكم، يوم تردون على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي سيم "ليست لأحد من الأمم"[6]، بها تعرفون في كثرة الخلائق يوم القيامة، كالدر المتناثر في دلجة الفضاء.. هذه ومضة الإبراق النبوي تبشر برشح الأنوار على أطراف المتوضئين الساجدين، رشحًا لا يذبل وميضه أبدًا، فإذا النبي الكريم يميز المحبين وسط الزحام واحدًا واحدًا:
"ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة.
قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟
قال: أرأيت لو دخلت صبرة [محجرًا] فيها خيل دهم، بهم، وفيها فرس أغر محجل، أ/ا كنت تعرفه منها؟
قالوا: بلى.
قال: فإن أمتي يومئذ غر من السجود، محجلون من الوضوء"[7].

هذه قصة الماء الطهور في جداول السلوك إلى الله، وفي الماء سقاء لدالية الشعور بالرضى الرباني، والقبول للمثول أمام جلال الله... ألا ما أعمق الفرق في الغصن الواحد بين زمانين:
الأول سنوات عجاف، لا نضرة ولا نعيم، ولا صدى لصهيل، إلا قعقعة الحطب في ليالي الريح..
والثاني عام فيه يغاث الناس، فتتسلق الدوالي أغصان البروق، ويحتفل المطر، فإذا الأشجار مورقة ريانة، وإذا صفوف المصلين تتراص عند فاتحة الزمان الجديد، والوجوه ما زالت ترشح بماء الطهور.


 الهوامش:
[1] رواه مسلم، رقم: (250).
[2] رواه مسلم، رقم: (224).
[3] رواه مسلم، رقم: (251).
[4] رواه مسلم، رقم: (244).
[5] رواه مسلم، رقم: (246).
[6] رواه مسلم، رقم: (247).
[7] رواه أحمد بسند صحيح، رقم: 17693.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
حلية الغر المحَجَّلين pdf
حلية الغر المحَجَّلين doc

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى