إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ ثم أما بعد..
ثم تعود إلى ربك؛ لتحقق تشهدك بين يديه، ولا شاهد عليك سواه: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"[1]، شهادة واضحة المقاصد صافية المواجد، تختزل فيها نبضك، ومسيرة عمرك، من البداية حتى النهاية، بل تختزل فيها الكون كله، في أبعاده المكانية والزمانية، أفقيًا وعموديًا، فإذا هو ذرة واحدة، تستمد فضل وجودها من الرب العظيم.
شهادة تشهد بها على نفسك – بين يدي الله – أن أغصانك بما أورقت، وأزهرت، وأثمرت، لن تميد إلا ساجدة لله، الذي لا معبود بحق سواه.
شهادة تقر فيها بكل حرية واختيار؛ أنك لن تسلك إلى مولاك في دلجة السالكين والشاردين، إلا مستنيرًا بقنديل المحبة الوهاج، الموقد بيد الرسول الأمين عليه صلاة الله وسلامه، فهذه آيات الله تلقى الأمر المقدس: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28] فماذا بعد هدي المصطفى عليه السلام إلا الضلال؟
شهادة تصف فيها ما تعتقده في شخص محمد صلى الله عليه وسلم؛ عبدًا ورسولا لله، يبلغ عنه التكاليف للعباد، وهو أول العابدين، فتتجلى فيه صلى الله عليه وسلم أنوارها ثم تشع في السالكين، فأكرم بها من نبوة، أشرقت على خاتم النبيئين: العبد الذي وله بعبوديته لله، حتى تفطرت قدماه، زاهدًا في السلك وفي زخارف الحياة الفانية، فعاش مع السالكين، يدعو ربه بالغداة والعشي يريد وجهه، فحقق عبوديته لله قائمًا وساجدًا، ومعلمًا ومجاهدًا، فاستحال بذلك أن تقول أمته فيه ما قالت النصارى في المسيح عليه السلام.
فعليك السلام أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ونشهد أنك عبد الله ورسوله، بلغت، وأديت، ووفيت، وجاهدت في الله حق جهاده حتى أتاك اليقين، فعليك السلام، عليك السلام، عليك السلام.
كانت شهادتك قد ملأت قلبك بجمال اليقين، وعمرت حدائقك بأنوار التوحيد، وأنت جالس إلى مائدة الرحمن، تنهل من أوراد الإيمان خاشعًا، إىل أن بلغت الجوهرة الكبرى، التش شعت أسرارها حتى ملأت المقام كله، فكانت علمًأ عليه، وكان (تشهدًا).. جوهرة يوشحك الرحمن من لطائفها نضرة وجمالًا، ويسقيك من معينها واردًا زلالا.
فيفتح قلبك – وقد هز جذعه النور الرقراق- أجنحة من طهور السلام، تخفق مع الملائكة إلى جوار الله ؛ لتصلي على النبي، دليلك المحبوب إلى مولاك، ويومض في خاطرك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، فتبادر إلى احتساء كأس الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، المغروفة من حوضه الكريم، وتهتف ساكن الغصن خفاق الجناح، فرحًا بإنعام الله عليك، وإذنه لأشواقك الحرى أن تصلي على سراج الأمة ودليلها:
"اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"[2].
وتمضي في بعث أشواقك للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصبعك ما تزال تتحرك في اتجاه القبلة، شاهدة على اعترافك بحب المصطفى، في جلستك أمام خالقك وهو يستمع إلى بوحك بحب محمد وآله.
كانت صلاتك على الحبيب تفور دعاء، محلقًا نحو الملك العظيم، ثم تسح من لدنه تعالى على روضة المصطفى ثناء، وتكريمًا وتفضيلًا، ورفعة إلى المقام المحمود، والدرجة الرفيعة، فاللهم صل وبارك على محمد وعلى آله محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. ولآل إبراهيم مقامات المصطفى الأخيار، إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، ولآل إبراهيم مقامات المصطفين الأخيار، فهم الأنبياء أبناء الأنبياء، وإن محمدًا منهم وهو أعلاهم مقامًا. ولآله الطاهرين ما لآل إبراهيم، فهم الصديقون والشهداء.
فيا أيها الخاشع جلوسًا بين يدي الله، تنال من كرم الله، ويحك أكرم نفسك بالصلاة على محمد، فإن "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي"[3]، فافجر ينابيع الرحمن على أغصان شلالا، يتدفق من جبال الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، فما زال أنصبابه يرتفع في السماء؛ ما دمت تدعو بالصلاة عليه، فيشتد شلال الرحمة الربانية تدفقًا على أغصانك الولهى، فلا يبقى بها درنان ذلك مصداق البشرى النبوية الكريمة لقوافل المساكين: "من صلى علي واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا"[4]، فإذا الجنان أبواب مفتحة، يفوح أريجها نسيمًا، مرحبًا بجناحك المنهك بمكاره الطريق، وإذا طيب الصلاة على النبي ينبعث من زهور شجرة الشفاعة، فيحط على غصنها، فرحًا بكرم الله.
فاقترب يا ولدي من خمائل الحبيب محمد، فهذه ظلاله يرقرق ماؤها حوضًا نبويًا، تهفو إليه القلوب العطشى من أمته، فلا يدرك كوثره إلا الصالحون؛ فمد يدك، إن كأسًا واحدة من حب الحبيب، بعشر أمثالها رحمة، ومغفرة، ورضوانا... أليس كذلك يا رسول الله؟
قال حبيبي: "من صلى علي واحدة، صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات، ورفع له عشر درجات"[5].
فأزهري يا غصون بكل فصل، وبثي أريجك بكل أرض، فكل الأزمنة راحلة إلى الله، وكل التراب عابد لله، وحيثما أدركتك الصلاة فصل، وزين تشهدها بالصلاة على النبي، وما زال عليه السلام يستقبل من أعمال أمته صلاة الأحبة عليه، وما زالت كلمته قنديلًا يحث السالكين باغتراف الرحمة، والمغفرة، والرضوان من جمال الرحمن، فيا رسول الله، هذا فؤادي شوق راحل إليك، أفتراه يبلغك؟
كان الجواب صدى لكلمة النبوة، الناثرة برد الماء على حشا العطشان: "حيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني"[6].
فالصلاة والسلام عليك يا رسول الله.. الصلاة والسلام عليك يا رسول الله..
يا أيها العبد الساري في غسق الدجى، امدد قنديلك زيتا؛ من هذا الجوي الخفاق بين ضلوع الطير الضاربة في الفضاء، ترسل أجنحتها في النسيم الراحل إلى منازل الحبيب، ويا حادي القلب، ويحك لا تبرح تغريدة الصلاة على النبي، فللخف منها خفة، ونشاط.
اللهم يا رحمن إنا قد أحببنا حبيبك فاشهد، أحببناه عبدًا قانتًا لله، ونبيا يفيض بنور الله، ورسولا مبلغًا عن الله، فاشهد.
اللهم صل وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين، كما صليت وباركت على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
تلك شهادتك لدى مولاك تفيض بأنوارها على داليتك الخاشعة، فتزداد قربا من مشكاة النور الإلهي، وهل حب النبي إلا ومضة من بوارق حب الله؟ مشرقة في سماء السالكين، هادية إلى أعتاب الله.
الهوامش:
[1] متفق عليه، البخاري: (1/166)، (831)، ومسلم: (1/301)، (402).
[2] متفق عليه، وقد: كان صلى الله عليه وسلم يصلي على نفسه في التشهد الأول وغيره"، رواه أبو عوانة والنسائي، وهو مذهب الشافعي، وبعض الحنابلة، وهو اختيار الألباني، (177).
[3] رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، وصححه الألباني، رقم: 2878.
[4] رواه مسلم، رقم: (384).
[5] المرجع السابق.
[6] رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي، والحاكم، وصححه الألباني، رقم: 6359.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.