وهب عبير التحيات! (3)... د. فريد الأنصاري

وهب عبير التحيات! (3)... د. فريد الأنصاري



إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ ثم أما بعد..
فإنه كانت مسيرتك – عبر جلسة التشهد الأول-  بهية الكشوفات، عطرة التجليات، فصرت تتوق-  وقد خلع عليك المولى الكريم فيها جلباب الرحمة، وبردة الرضوان – إلى الخدمة في عبادته؛ تحقيقًا لمزيد من لذة التعبد في حضرته؛ ركوعًا وسجودًا بين يدي عرشه، لتنهض نشيط الجناح؛ تقوم ممتثلًا أمام جلال ملكه، وجمال وجهه سبحانه وتعالى.. تسفر في مقامات أخرى، وتدخل عوالم ذات أحوال وأذواق جديدة، مما لم تجد قبل ولم تذق، سائحًا في مملكة الله، تجني من أطايبها ما تشاء، حتى إذا أديت حق الله كما أمر الله، عبر صلاتك، ثلاثية كانت أم رباعية، ثم أذن لك في الجلوس إلى مائدة الرحمن ثانيا، مستروحًا بعبيرها، أوقدت قناديل سمر جميل، تحت خمائل الملك الكريم.
 
ومددت يدك لترشف من كأس الوصل الثانية، وأردات التشهد الآخر، فيتجلى ربك بجلاله وجماله، على قلبك المسكون بحبه... ويأذن لك بالتحية مرة أخرى... ثم تأخذ بأسباب الأدب النبوي، في تحية مولاك بالتشهد الآخر، وتجلس على هيأة أخرى، غير ما صنعت في التشهد الأول، هيأة ذات بهاء وضاء، ووقار عظيم،.. ويمتد النور من عينيك المشوقتين برؤية محمد صلى الله عليه وسلم أول العابدين، وسيد القانتين، وهو يصلي جلوسًا بين يدي ربه، في تشهده الثاني، لتقتدي به، تفعل ما يفعل، حرفًا بحرف. فهو إمام السالكين، و"إنما جعل الإمام ليؤتم به"[1].
 
فها هو ذا الحبيب قد أتم الركعة الأخيرة، وجلس للتشهد الأخير، فتتبعه في جلوسه خاشعًا، إذ "يقعد فيه مُتَوَركًا"[2]، أي: "يفضي بوركه اليسرى[3] إلى الأرض، ويخرج قدميه من ناحية واحدة"[4] وهي ناحية اليمين، و"يجعل اليسرى تحت فخذه وساقه"، و"ينصب اليمنى"[5]، وربما "فرشها"[6] أحيانًا، ثم "يلقم كفه اليسرى ركبته، يتحامل عليها"[7].
 
ها أنت ذا الساعة قد استأنفت مقامك جالسًا عند سيدك الكريم، بتشكيلة نبوية لأغصانك وجوارحك، ترحل في غمرة الأحوال والفيوضات الرحمانية، لتسامر ذا الجلال في خشوع، خفاق الجناح، تعظيمًا وتنزيهًا؛ ثم تشير بأصبعك إلى القبلة، لتوقد قنديل التشهد من جديد: تحيات وسلامًا، وتوحيدًا، فصلاة على النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم.
 
الزيت نفسه هو هو، والقنديل نفسه هو هو، لكن النور أصفى وأبهى، والذوق أعذب وألذ؛ فإذا البصر يرى ما لم ير، والقلب يشهد ما لم يشهد: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]، وإذا الأباريق تسكب في أكواب الشوق زلال النعمة، ورقراق النور، فلأغصانك أوراق وأزهار، تتجدد مع كل نفس جديد، وسبابتك ما زالت تستزيد من جمال الله، حتى يمتلئ المكان مسكًا وعنبرًا. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].
 
فيا جوارح اخشعي، ويا خفقات تبتلي، ويا جفون انثري من دمعك الولهان سخين الجوى، فقد أشار المليك، وأزف الفراق، فالعياذ العياذ، بِحَرَمِ المجير الذي لا يضام جاره، فللطريق خارج حصون الصلاة مزالق ومكاره.
 
أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وسط أصحابه يرسم في الأرض بجمالية البيان؟ إذ يفسر لهم آية من كتاب الله، فيخط خطًا مستقيمًا، ويفرع عنه خطوطًا إلى يمينه وشماله، ثم يقول: "ضرب الله تعالى مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تتعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب؛ قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام. والسوران: حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة: محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق: واعظ الله في قلب كل مسلم"[8].
 
فاستعذ بالله يا صاح متشهدًا، وحرك سبابتك خاشعًا، تدعو بها، لتحصن عنقك بجواهر التشهد الثاني، عقدًا ربانيًا يحجب عنك كل مكروه، ولتجعل أول دعائك كَلِمّا نبويًا، ثم سل مولاك بعد ما تشاء: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال"[9]، دعاء يستدفع به الشر كله؛ عياذًا بحصون الحفيظ العليم، القاهر فوق عباده.
 
فاعتصم بشراعه يا سالك عند كل تشهد آخر، فقد كان سراج الأمة محمد صلى الله علهي وسلم "يعلمه الصحابة رضي الله عنهم كما يعلمهم السورة من القرآن"[10]، إذ يمد شعاع الهدى ساعيًا بين أيديهم: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم...[إلخ]، ثم يدعو لنفسه بما بدا له"[11]. بعد ذلك.

وتذكر جراحك وأحزانك، وحاجتك الآجلة والعاجلة، فتدعو. وتذكر أحزان الأمة وجراحها، ومآتمها، وهوانها، فتدعو... وتذكر المرابطين في الثغور صامتين، يألمون ما يألمون محتسبين: فتدعو.. وتذكر الفقراء والمستضعفين، والظالمين المستكبرين، وتذكر، وتذكر.. فتدعو، وتدعو، وتدعو..!
 
وما تزال تتشهد، مشيرًا بسبابتك تدعو بها، جالسًا جلسة الأصفياء عند الملك الكريم، وباب هباته مفتوح ينثر عليك من إنعامه بكل دعاء كرامات وحسنات.
فسبحانه وتعالى، وله الحمد والثناء، كما ينبغي لعظيم فضله وجمال إحسانه.
كان النور قد غمر جناحيك ريشة ريشة، فأشرقت روحك في هالة وهاجة الأريج، دفاقة العبير، ونبض قلبك يشع لؤلؤة صافية الأديم، طاهرة الخواطر.
 
ويأذن الملك لعباده المخبتين بالإنصراف جالسين متبتلين، وهو يغمرهم بأنوار الرضى والقبول؛ فيستشعر العبد حينئذ أطياف التوابين والمتطهرين، ممن يرى ومن لا يرى، جاثين حواليه، عن اليمين وعن الشمال، يتضرعون بين يدي التواب الرحيم، "ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله"[12]، ويلتفت بوجهه الأغر هادئًا مطمئنًا؛ كي "يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله..
                     حتى يًرى بياض خده الأيمن، ثم يسلم عن يساره:
                    السلام عليكم ورحمة الله.
                       حتى يُرى بياض خده الأيسر"[13].
 
وتفتح عينيك على علم الأشباح والرسوم، فلا تبرح مكانك حتى تذكر ربك بعيد الصلاة، جبرًا لما ضاع لك منها في جيوب الشرود، وتسديدًا لقلب مقبل على خوض أدخنة الحياة، بعد ما غاب عنها في حضور حيّ مع الله، حضور طوى في شهوده مقاييس الزمان والمكان... فتوكل على مولاك يا ذاكر... مسبحًا، وحامدًا، ومكبرًا، ثم متشهد، مسترشدًا بهدي الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال: "من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"[14].
 
ثم تنطلق بعدها خفيف الجناح، مشرق الروح، ثابت العزيمة، لتدخل غمار الحياة الأرضية بنشاط جديد، وعقلك شلال تتفجر طاقاته عند كل عمل، تصلح به معاشك، أو معادك، قوي الأمل في الله، لا تضع يدك على عود ذابل إلا ورق صلاحًا بإذن الله، وأزهر بشائر بتوفيق الله، ولا تفتح بابًا إلا انفتح عن رزق حسن وسلام من الله، ولا يضيق عليك درب إلا فسحت لكساحات ذات ضياء وظلال، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].
 
وقد ينخسك الشيطان في طريقك، فتطرده قوي الجنان، عالي الهمة، فيفر منك مذعورًا، ثم يعود، وأنت تعود؛ حتى إذا غم عليك تعبًا من ضجيج الحياة، رجعت إلى سفارك الجميل، ومنتزهك البهيج، و... وكنت على موعد جديد مع الله.
 
تلك الصلاة بنورها وبهائها: سفر في مقامات الكمال والجمال، وحركة للروح في هيآت ذات أحوال، ومشاهدات لفيوضات الأنس والرضى من ربك ذي الجلال.
تلك رياضة الأنبياء والصالحين، ومن اقتفى آثارهم من السالكين، رياضة تعمر القلب والجوارح، بالحب والعافية والسلام.
 
 الهوامش:
[1] متفق عليه، البخاري: (378)، ومسلم: (411).
[2] رواه البخاري: (727).
[3] الورك: هو ما فوق الفخذ من جهة الدبر.
[4] رواه أبو داود، والبيهقي بسند صحيح.
[5] رواه مسلم، (793).
[6] رواه البخاري، (727).
[7] رواه مسلم، (793).
[8] المستدرك على الصحيحين للحاكم، (245).
[9] رواه أحمد، والحاكم وصححه الألباني في: صحيح السلسة الصحيحة، رقم: 3887، وفي "مشكاة مصابيح السنة" رقم: 191، وراجعه بروايات أخرى في تفسير ابن كثير لقوله تعالى من سورة الأنعام: "وأن هذا صراطي مستقيمًا".
[10] رواه مسلم، (590).
[11] رواه مسلم، (588).
[12] رواه مسلم، (431).
[13] رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وصححه.
[14] رواه مسلم، (597).

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى