إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فإن المؤمنون ليسوا على درجة واحدة في معرفة أسماء وصفات الله تعالى كما أشرنا إلى ذلك، ولهذا تتفاوت درجات إيمانهم، ولذلك فإن المؤمنين المهتدين يؤمنون بأسماء الله وصفاته فيدعون الله بأسمائه، ويصفونه بصفاته غير مشبهين صفاته بصفات المخلوقين، ولا مؤوولين، ولا معطلين، مع الاعتقاد الجازم بأن الله ليس كمثله شيء، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
والقرآن العظيم عرض كثيرًا من صفات أهل الإيمان، وتحدثت آياته عن أهمها، ودعت المؤمنين للاتصاف بها حتى يعيشوا حياة إيمانية مباركة، والإيمان والعمل بها يكسب صاحبها نفعا عاما مجزيا ويمنحه مكاسب ضخمة، وأرباحا في الدنيا والآخرة.
إن الإيمان والعمل بالتوكل الصحيح ينفع صاحبه نفعا ملحوظًا في عالم الفضائل والقيم والأخلاق وفي عالم السعي والحركة والعمل والحياة... فمن هذه المكاسب والثمرات الأمل والرجاء، والرجاء المقصود هنا بمعنى "الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه، وقيل هو النظر إلى سعة رحمة الله"[1].
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، فالرجاء تغلغل في قلوبهم بعد توكلهم على الله وملاهم الأمل في النجاة. إن المؤمنين المهاجرين "فارقوا أوطانهم وعشائرهم ويطمعون في ثواب الله فهموا يتوقعونه، ويرجونه، والله تعالى يحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح"[2].
فالمؤمنون المهاجرون المجاهدون صدقوا الله ورسوله، وفارقوا الأهل والأوطان وتركوا مساكنة المشركين في ديارهم، وكرهوا سلطان المشركين، فهاجروا توكلًا على الله وخوفًا من الفتنة في الدين، ولإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وحاربوا في سبيل الله، ولحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأولئك يطمعون في رحمة الله وأولئك هم الكمل، فالله يجازيهم أحسن الجزاء، لأنهم قد استفرغوا ما في وسعهم، وبذلوا غاية جهدهم، ولم يدخروا وسيلة فيها مرضاة لربهم إلا وفعلوها فحق لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة، والله تعالى واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم بالمؤمنين يحقق لهم رجاءهم إن شاء بعميم فضله وعظيم طوله، قال قتادة[3]: "هؤلاء خيار هذه الأمة، قد جعلهم الله أهل رجاء، ومن رجا طلب، من خاف هرب"[4].
فهذه الهجرة العظيمة في أسبابها العظيمة وفي نتائجها أصحابها رضي الله عنهم منعوتون بنعوت جليلة لهم ما يرجونه من الفوز المتفضل به الله تعالى عليهم[5].
"فكل من هاجر فرارا بدينه لإقامته نال من الله تعالى رجاءه وأمله وذلك؛ لأنه خرج مهاجرًا مؤمنًا مجاهدًا فاجتماع الأوصاف الثلاثة كفيلة بإذن الله تعالى لحصول، وترقب الخير، وكذلك تغليب ظن حصوله، فإن وعد الله وإن كان لا يخلف فضلا منه وصدقًا، ولكن الخواتم مجهولة ومصادفة العمل المراد لله قد تفوت لموانع لا يدريها المكلف ولئلا يتكل في الاعتماد على العمل"[6].
فالمؤمن دفعه أمله ورجاؤه بالله تعالى إلى خوض المعارك، قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104] فالآية تتضمن معنى واضح ألا وهو "لا تضعفوا في طلب القوم، ولا تتوجعوا فإنكم إن تكونوا تتوجعون فإنهم يتوجعون كما تتوجعون، ويرجون من الأجر والثواب ما لا يرجون"[7].
وفي هذه اللحظة تتداخل المشاعر في القلوب ويحتاج القلب إلى زاد فيأتي التوكل على الله فيشع ويعلو القلوب بالأمل والرجاء في الله تعالى فيترقب المؤمنون ويتجهون لله تعالى فينهي الله المؤمنين عن الضعف والتوجع، لأن المشركين بالمقابل يتوجعون ويريدون إنزال الهزيمة بالمؤمنين مع تألمهمن ويرجون النصر، والمؤمنون كذلك يرجونه، فالله تعالى هنا يشحذ همم المؤمنين بتشجيعهم على مواصلة الجهاد، والجلد، والصبر على مقاتلة العدو، والله تعالى عليم بالأحوال التي صاروا إليها، والظروف الملابسة، ولكنه سبحانه حكيم في شرع بالأمر والنهي يطمئنهم على حسن العاقبة لهم بالنصر على أعدائهم.
فمن هنا نرى أن العمل مشترك بين المؤمن، والكافر فالكل يعمل ويرجو ويأمل، ولكن المؤمن يبتغي بعمله وجه الله، والكافر يبتغي بعمله الدنيا والرياء والسمعة.
إن حصول الألم قدر مشترك بين الفئتين، فلما لم يصر خوف الألم مانعا للفئة الباغية الكافرة من قتالكم، فكيف يصير مانعًا للفئة المؤمنة عن قتالهم، فالله تعالى يزيد في تقرير الحجة ويعلم المؤمنين بأولويتهم بالمصابرة على القتال من المشركين، لأن المؤمنين مقرون بالثواب والعقاب والحشر والنشر، والمشركين لا يقرون بذلك، فإذا كانوا مع إنكارهم الحشر والنشر يجدون في القتال، فالمؤمنون مع ذلك أولي بأن يكونوا مجدين في هذا الجهاد الذي في فعله الثواب العظيم، وفي تركه العقاب وهذا المراد من قوله: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} والله تعالى لا يكلف المؤمنين شيئًا، ولا يأمرهم ولا ينهاهم إلا بما هو سبب لصلاح الدنيا والدين[8].
"وبهذا التصوير يفترق طريقان ويبرز منهجان ويصغر كل ألم، وتهون كل مشقة. ولا يبقى مجال للشعور بالضنى وبالكلال.. فالآخرون كذلك يألمون. ولكنهم يرجون من الله ما لا يرجون! فالمؤمنون يتحملون الألم وليسوا وحدهم الذين يتحملونه ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء، فالمؤمنون يتوجهون إلى الله بجهادهم ويرتقبون، ويأملون عنده جزائهم، والكفار ضائعون لا يرتقبون ولا يأملون شيئًا، وإن مرت على الجماعة المؤمنة فترة من المهاتفات النفسية اليائسة، ولكن القاعدة لا تتغير فالباطل لا يكون بعافية أبدًا، حتى ولو كان غالبًا فإنه يلاقي الآلام من داخله، ولكن العزاء العميق للجماعة المؤمنة هو {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} وهذا هو مفرق الطريق"[9].
"إن المؤمنين المخلصين يعلمون أن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه، والطاعات جارية مجرى تنقية الأرض وتطهيرها، ومجرى مفر الأنهار، ومساقي الماء إليها"[10].
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5] إن المؤمن الحق هو الصادق، وهو من يتأمل الخير، وينتظر وقوعه من شدة قربه بالله وإحساسه بسعة رحمة الله والاستبشار بجود وفضل الله تعالى.
فيعمل العبد ويقرن أعماله بالتوكل على الله ويسعى لمرضاة ربه ومرضاة رسوله، فعمل الإنسان وعبادته لا تكفي لحصول النتائج بل الله صاحب القدرة والمشيئة في كل الأمور ولكن مع هذا يظل العبد المؤمن يتوكل على الله وحده لتحقيق المراد والمصاير وقبول الأمر بأمل ورجاء في الله تعالى.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات: أحفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف"[11].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، فالله كاف الجميع ما يهمهم في جميع أمورهم، والله تعالى يريد من عبده المؤمن تكميل مراتب العبودية من الذل والانكسار، والتوكل والاستعانة، والرضى والإنابة له، والأمل والرجاء وفيهما من الانتظار والترقب لفضل الله ما يوجب التعلق بذكر والعمل على طاعته، ورضاه فالله يحب من عباده أن يؤملوه ويرجوه ويسألوه من فضله سبحانه بعد توكلهم عليه.
الهوامش:
الهوامش:
[1] انظر ابن القيم، مدارج السالكين، (2/37)
[2] انظر: الرازي، مفاتيح الغيب، (6/41-42)
[3] أبو طالب، قتادة ابن دعامة السدوسي الأكمه، توفى سنة 117هـ ، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، (5/269)
[4] انظر: للمراغي، تفسيره (1/137)
[5] انظر: لأبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، (1/255)
[6] انظر: لابن عاشور، التحرير والتنوير، (2/337- 338)
[7] انظر: للسيوطي عن قتادة، الدر المنثور، (2/6687)... وما بعدها.
[8] انظر: للرازي، مفاتيح الغيب، مج (11-12/31-32)
[9] انظر: لسيد قطب (2/739-750)
[10] انظر: للمقدسي، مختصر منهاج القاصدين، ص 297
[11] الترمذي (2516) واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند (2804) وقال شاكر: إسناده صحيح.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.