الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ قال أبو بكر وبلغني، عن بعض الحكماء، قال: "التوكل على ثلاث درجات: أولاها ترك الشكاية، والثانية الرضا، والثالثة المحبة، فترك الشكاية درجة الصبر، والرضا سكون القلب بما قسم الله له، وهي أرفع من الأولى، والمحبة أن يكون حبه لما يصنع الله به، فالأولى للزاهدين، والثانية للصادقين، والثالثة للمرسلين"[1]، من خلال كلام شيخ الإسلام نستطيع أن نقول أن التوكل حسب المتوكل عليه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التوكل على الله:
وينقسم بحسب موضوعه إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: وهو توكل الخاصة من عباد الله في حصول مستحبات وواجبات[2]، وهو التوكل في تجريد التوحيد والاستقامة عليه، والتمسك بدين الله علمًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا، وقد جعله بعض العلماء على درجتين:
الدرجة الأولى: هو توكل العبد على لله في إصلاح نفسه، دون النظر إلى غيره من الناس، إذ مهمته استقامة نفسه وهدايتها.
الدرجة الثانية: هو توكل العبد في استقامة نفسه – كما تقدم – بالإضافة، إلى إرشاد الناس إلى الخير وهدايتهم، والاهتمام بمصالح الناس ونفعهم، وإقامة دين الله في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أفضل التوكل وأنفعه، وهو توكل الأنبياء وورثتهم، قال ابن القيم رحمه الله: (فأفضل التوكل: التوكل في الواجب أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس، وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم)[3].
النوع الثاني: هو توكل العامة على الله في حصول مباحات[4]، وهو التوكل على الله في تحصيل المطالب الدنيوية والحظوظ النفسية، كمن يتوكل على الله في حصول رزق أو ولد أو عافية، أو غير ذلك من الحظوظ الدنيوية، وهذا تحصل له الكفاية فيما توكل عليه فيه في الدنيا دون الآخرة، إلا إذا كانت نيته الاستعانة بذلك على طاعة الله كما سبق، لكن متى توكل العبد في النوع الأول حق توكله كفاه الله النوع الثاني تمام الكفاية[5].
النوع الثالث: هو توكل الظالم لنفسه على الله في حصول محرمات[6]، كمن يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش، وهؤلاء آثمون لمخالفتهم أمر الله ورسوله وكانت عاقبتهم سيئة[7].
القسم الثاني: التوكل على غير الله:
وينقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: التوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من جلب منفعة أو دفع مضرة، فهذا شرك أكبر، لأن التوكل على الله من لوازم الإيمان، فرصفه لغير اله فيما لا يقدر عليه إلا الله من الشرك الأكبر، كالذين يعتمدون على الصالحين من الأموات والغائبين في جلب منفعة أو دفع مضرة، لأنه يعقتد أن لهؤلاء تصرفًا خفيًا في الكون[8].
النوع الثاني: التوكل على حي حاضر فيما يقدر عليه من رزق أو دفع أذى، مع الشعور بعلو مرتبة المتوكل عليه وانحطاط مرتبة المتوكل، فهذا شرك أصغر لقوة تعلق القلب به والاعتماد عليه، ولهذا قيل الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد[9].
وأما لو اعتمد عليه على أنه سبب، وأن الله تعالى هو الذي قدر ذلك على يده، فإن ذلك لا بأس به، إذا كان للمتوكل عليه أثر صحيح في حصوله[10].
النوع الثالث: الاعتماد على الغير في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه، فهذا جائز، وهو الذي يسمى بالوكالة، وقد دل على جوازه الكتاب والسنة والإجماع، ولكن لا يعتمد عليه في حصول ما وكل فيه، بل يعتمد على الله في تيسير أمره الذي يطلبه، ولا يقول: توكلت على فلان، وإنما يقول: وكّلت فلانًا.[11]
الهوامش:
[1] أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، مجموعة رسائل بان أبي الدنيا كتاب التوكل على الله، ص 71
[2] التحفة العراقية (ص 347)
[3] مدارج السالكين (ص 2/85)
[4] التحفة العراقية (ص 347)
[5] الفوائد (ص 124-125)
[6] التحفة العراقية (ص 347)
[7] انظر مجموع الفتاوى (ص 10/276)
[8] انظر القول المفيد (ص 2/668)
[9] انظر مجموع الفتاوى (10/257)
[10] شرح ثلاثة أصول، للشيخ ابن عثيمين (ص 59)
[11] انظر: رسالة في تحقيق التوكل (1/89)، ضمن جامع الرسائل، والقول المفيد (2/668)، وشرح ثلاثة أصول للشيخ ابن عثيمين (ص 59)، وشرح الأصول الثلاثة للشيخ الفوزان (ص 138)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.