الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فإن التوكل على الله سبحانه وتعالى من مقتضيات الإيمان الصادق ولوازمه، وهو من أوجب الواجبات القلبية وأفضلها، بل عده بعض العلماء نصف الدين، لأن الدين نصفه الإنابة وهي الغاية، ونصفه التوكل لأنه وسيلة إلى الغاية[1]، فإذا استعرضنا نصوص القرآن والسنة وجدنا الاهتمام الكبير من قبل الشارع بالتوكل، فتارة يأمر بإفراد التوكل على الله، وتارة يقرنه بالعبادة، وتارة أخرى يثني على المتوكلين عليه وحده دون سواه، كما يبين أيضًا الأجر الجزيل الذي أعد لهم وأنه من أوصاف المقربين له، تذكر بعض هذه الأساليب بشيء من التفصيل، محاولا الاستشهاد عليه بكلام شيخ الإسلام على ذلك.
فالنصوص التي تأمر بالتوكل على الله كثيرة، حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: (التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله واجب؛ وحب الله ورسوله واجب، وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، ونهى عن التوكل على غير الله، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123]، وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13]، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84][2]
فالتوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى، قال تعالى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، قال ابن القيم رحمه الله: (فجعل التوكل شرطًا في الإيمان، فدل ذلك على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل)[3]، فلا يكون مؤمنًا بالله من لا يثق به ويفوض أمره إليه، إذ الإيمان بأن الله على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد، وأنه عليم بذات الصدور، وهو نعم المولى ونعم النصير، وأنه حي لا يموت، وأنه حسب من توكل عليه وناصره ومؤيده، كل هذا مما يستدعي التوكل عليه وحده دون سواه، فكل ما سوى الله سبحانه لا يصلح أن يكون متعلق توكل المرء، لأن الجميع إلى الفناء سائر، وما يفني لا يصلح لأن يتوكل عليه.
فالواجب على العبد أن يتوكل على الله لا على المخلوقين، فإن (المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه، وبصره وهداه، وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذنه الله... فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله والاستعانة به، ودعاءه ومسألته، دون ما سواه، ويقتضي أيضًا محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه)[4]، فكلما قوى إيمان العبد كان توكله أكبر، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل.
فالإيمان بالله أنه الملك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، كل هذه يستلزم إفراد التوكل لله رب العالمين، ومن شهد أن المعطي أو المانع، أو الضار أو النافع، أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته.
لكن من أراد التخلص من هذا الشرك، فلينظر إلى المعطي الأول مثلًا، فيشكره على ما أولاه من النعم، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه، لكن فليعلم أن النعم من الله، وأنه هو المعطي في الحقيقة، فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها، وساقها إلى من يشاء من عباده، فالمعطي هو الذي أعطاه، وحرك قلبه لعطاء غيره، فهو الأول والآخر.
فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم، وأراح النناس من لومه وذدمه إياهم، وتجرد التوحيد في قلبه، فقوى إيمانه، وانشرح صدره، وتنور قلبه، ومن توكل على الله فهو حسبه، ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (من عرف الناس استراح)، يريد _ والله أعلم – أنهم لا ينفعون ولا يضرون[5].
فالتوكل أصل من أصول العبادة التي لا يتم توحيد العبد إلا به، وقد جاء الأمر بالجمع بينهما في كثير من الآيات، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } [الفرقان: 58]، وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } [المزمل: 8، 9][6]، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت...)[7].
وبيان الجمع بين التوكل والعبادة هو؛ أن القلب فقير إلى الله من وجهين: من جهة أن العبد لا بد أن يقصد شيئًا يريده، ويطمئن إليه، فالقلب لا يطمئن ولا يلتذ ولا يسر إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه.
ومن جهة أن العبد لا بد له من شيء يثق فيه ويعتمد عليه في نيل مطلوبه، ولا يحصل هذا للعبد إلا بالتوكل على الله والاستعانة به، فـ (هو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود، ومن حيث هو المسئول المستعان به، المتوكل عليه؛ فهو إله لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه.
ولا تتم عبوديته لله إلا بهذينـ، فمتى كان محبًا لغير الله لذاته، أو ملتفتا إلى غير الله أنه يعينه، كان عبدًا لما أحبه، وعبدًا لما رجاه، بحسب حبه له ورجائه إياه، وإذا لم يحب لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئًا إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها، كان مشاهدًا أن الله هو الذي خلقها وقدرها وسخرها، وأن كل من في السماوات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه وهو مفتقر إليه، كان قد حصل من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك)[8].
فالتوكل على الله داخل في عبادته، ولكنه قرنه بها لمزيد الاهتمام به، لأن العبادة لا تصح بدون التوكل على الله، كما أن التوكل لا يصح بدون عبادته وطاعته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد ليكون عابدًا لله متوكلًا عليه، وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به، فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل أو مثله أو دونه، كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب، بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه)[9].
وإذا كان الله عز وجل قد قرن بين التوكل والعبادة في أكثر من موضع في كتابه، فإ الناس في مقام التوكل والعبادة ينقسمون إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: أهل عبادة وتوكل، وهذا القسم المحمود.
القسم الثاني: المعرضون عن العبادة والتوكل.
القسم الثالث: من لهم نوع عبادة بلا توكل.
القسم الرابع: من يتوكلون على الله، ولا يعبدونه.[10]
الهوامش:
[1] انظر: طريق الهجرتين (ص 425)
[2] الإيمان الكبير (ص 17)
[3] طريق الهجرتين (ص 423)
[4] مجموع الفتاوى (ص 1/27-28)
[5] مجموع الفتاوى (1/92-93)، باختصار وتصرف يسير.
[6] انظر: مجموع الفتاوى (8/526-527)
[7] أخرجه البخاري في صحيحه (ص 1271)، في كتاب التوحيد، ومسلم في صحيحه (ص 304) في كتاب الصلاة، الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
[8] العبودية (ص 78)
[9] مجموع الفتاوى (10/491)، وانظر كذلك (10/492).
[10] التحفة العراقية (ص 339-345)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.