الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة اللعالمين، ثم أما بعد إن لكل سلوك وخلق يقومبه الإنسان دوافعه وبواعثه، فمنها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم، ولكن ما نحن بصدد الكلام عنه لو دوافعه المحمودة، فالتوكل على الله من الأخلاق التي لا تكتسب إلا ببواعث لها أساس في شخصية العبد المتوكل العابد.
والتوكل عبادة لله، إذ هو سبحانه وتعالى لا يعبد إلا بمعونته، وعبادته لا تأتي إلا بالمعرفة الحقة، وذلك برسوخ معنى الألوهية والربوبية ورسوخ معاني أسمائه، وأفعاله في النفس المؤمنة، وكذلك استسلام العبد وافتقاره لله عز وجل وكمال إنقياد، وخضوعه لله سبحانه وتعالى، وحسن ظنه بربه وإنابته له، ولا ننسى ما أعده الله تعالى من حسن ثواب وجزاء للمتوكلين.
والقرآن لم يترك لهذا الخلق العظيم جانبًا إلا بحثه، وبهذا فإن أساس كل شيء الإيمان الصادق القوي، وهو الدافع إلى المكرمات، وصاحبه يكتسب الخلق القويم حتمًا، فسبحانه لا يدعو إلى خير أو ينفر من شر إلا وجعل ذلك من مقتضى الإيمان المستقر في القلوب، فالتوكل على لله وغيره من الأخلاق التي شرعها الإسلام هي طاعات صادرة من الإسلام وشرعه، فهي مدارج الكمال وروافد تصون العبد المؤمن؛ لذلك أعطيت منزلة كبيرة في دين الله، والتوكل له منزلته ومقامه.
وما بواعثه التالية الذكر إلا وتدل على أنها لها قيمتها العالية، وقيمة العمل ترجع قبل كل شيء إلى طبيعة البواعث التي تمخضت عنه، وهذه البواعث ما هي إلا توجيه ومضي للأولياء والمؤمنين على السير وفق البواعث لينال المرء المنشود منها[1].
رسوخ معاني أسماء الله الحسنى وصفاته في النفس:
إن لله تعالى أسماء وصفات كلها حسنى، وأوصافه، واسماؤه كلها كمال فهو سبحانه منزه، عما يضاد صفات كماله، وأسمائه الحسنى، ومنهج السلف الصالح في أسماء الله تعالى وصفاته: هو الإيمان بها كما أخبر الله، وكما أخبر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك على مراد الله تعالى، وبالوجه الذي يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، مع الإيمان بأن الله تعالى لا يشابهه أحدًا من خلقه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
فالإيمان بالأسماء والصفات من التوحيد القولي، والاعتقاد المتعلق بأعمال القلوب.
فرسوخ معاني أسماء الله وصفاته في نفس المؤمن تجعله يتعبد الله بها فسبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، "أي ليس كمثله شيء في شأن من الشئون التي من جملتها هذا التدبير... المبالغ في العلم بكل ما يسمع ويبصر"[2]، إن توحيد الأسماء والصفات هو روح الإيمان، وأصله وغايته، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته أزداد إيمانه ورسخ، وقوى يقينه فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الله بأسمائه، وصفاته من غير تعطيل، ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تكييف، بل تكون المعرفة والرسوخ لمعانيها ومحتوياتها متلقاه من الكتاب والسنة، وما روى عن الصحابة، والتابعين لهم بإحسان.
وبهذا فعندما يمرر المؤمن أسماء الله، وصفاته على وفق ما اشرنا إليه يحصل الرسوخ، وتحصل المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة إيمان، فمثلًا: على العبد أن يعلم أن لا إله إلا الله "فاسم (الله) دال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا)[3]، واسم (الله) دال على كونه معبودًا تألهه الخلائق تعظيمًا وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائج، والنوائب، وهناك الكثير م الآيات القرآنية الكريمة ارتبط فيها اسم "الله" بخلق التوكل على الله؛ الذي يستلزم كمال ربوبيته، وألوهيته.
قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [التوبة: 129]، أتوكل على الملك العظيم مالك (العرش العظيم) الجسم الأعظم المحيط الذي تنزل منه الأحكام والمقادير[4]، والمعنى: "عليه توكلت يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم، والسبب في تخصيصه للعرش بالذكر؛ أنه كلما كانت الآثار أعظم، وأكرم، كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم، ولما كان أعظم الأجسام هو العرش كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه)[5]، فالعلة في التوكل على الله أنه منزل الأحكام والمقادير صاحب الملك العظيم والعرش العظيم.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم عظم هذا العرش بالنسبة للسموات وبالنسبة للكرسي "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة"[6]، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الشعراء: 217 - 220]، فالله تعالى يأمر رسوله بالتوكل عليه وتوطين قلبه على التوكل وذلك لما وصف الله تعالى ذاته بعلمه بحاله صلى الله عليه وسلم التي بها يستأهل ولايته بعد أن عبر عنه بما ينبيء عن قهر أعدائه ونصر أوليائه من وصفي العزيز الرحيم[7].
فا "التوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره، وقوله "العزيز الرحيم"، أي الذي يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته؛ لما أراك فيه من التقلب، والتهجد، وطلب النصر عليهم بإلحاحك في الدعاء"[8]، وفي الآية " علق التوكل بالأسمين" (العزيز، والرحيم) ما تبعهما من الوصف الموصول وما ذيل به من الإيماء إلى أنه يلاحظ قوله، ويعلم نيته، إشارة إلى أن التوكل على الله يأتي بما أومأت إليه هذه الصفات ومستتبعاتها بوصف (العزيز الرحيم) للإشارة إلى أنه بعزته قادر على تغلبه على عدوه الذي هو أقوى منه، وأنه برحمته يعصمه منهم)[9]. وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] فهو سبحانه سميع لما يقوله العباد ويدبرونه، وعالم بما أضمروه إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فينبغي التوكل وتفويض الأمر إليه سبحانه؛ ليكون ذلك عونًا لنا على السلامة[10].
فمتى علم المؤمن أن له ربًا يسمع، ويعلم، ويحيط بكل أموره، ولا يتركه طرفة عين، ومراقبته الدائمة، كان ذلك دافعًا، ويقينًا قويًا وعزيمة فتية للإصرار على المضي في التوكل، والثبات وعليه والتمسك به، فلا يخشى المؤمن بذلك ظلم ظالم، ولا بطش باطش لأنه يستشعر نظر الله إليه في كل أمر له أو عليه، ومعيته سبحانه، وعلمه، وبهذا يتحول ما يلقاه المؤمن من العقوبات والصعاب، والمشاق، والعنت إلى تلذذ واستعذاب، محتسب ذلك كله عند ربه.
وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58، 59]، فالله تعالى: "حقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين من شأنهم الموت فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم... وصف بالصفة الفعلية بعد وصفه بالصفة الأبدية التي هي من الصفات الذاتية والإشارة إلى إتصافه بالعلم الشامل لتقرير وجوب التوكل عليه تعالى وتأكيده فإن من أنشأ هذه الأجرام العظام... مع كمال قدرته على إبداعها دفعه لحكم جليلة وغايات جميلة... أحق من يتوكل عليه وأولى من يفوض الأمر إليه"[11].
"فالحي الذي لا يموت" هو الله تعالى، وعدل عن اسم الجلال إلى هذين الوصفين لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه؛ لأنه الدائم، فيفيد ذلك معنى حصر التوكل في الكون عليه، فالتعريف في (الحي) أي الكامل حياته لأنها واجبة باقية ومستمرة، وحياة غير معرضة للزوال بالموت، ومعرضة لاختلال أثرها بالذهول كالنوم ونحوه فإنه من جنس الموت، فالتوكل على غيره معرض للاختلال وللانخرام، وفي ذكر الوصفين تعريض للمشركين إذ ناطو آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء، وفي الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله؛ لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت، وإن كان قيد يفيد أحيانًا لكنه لا يدوم"[12]، فسبحانه حي كامل الحياة، فإيمان المؤمن بهاتين الصفتين خير معين على التصبر على ما يتجرع من ألوان البطش والعذاب.
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29]، إن " في ذكر الرحمن هنا إشارة إلى أن أهل الإيمان مرحومون، وأن فعل الله بالمؤمنين دائمًا محفوف بالرحمة"[13]، وذكر اسم الرحمن هنا " أكد لهم حصول الرحمة في الدنيا والآخرة لإيمانهم، وتوكلهم عليه خاصة"[14]، فالرحمن اسم يدل على اتصاف الرحمن بالرحمة، والبر والجود والكرم وعلى سعة رحمته ومواهبه التي عم بها جميع الوجود وخص المؤمنين منها، بالنصيب الأوفر والأكمل.
قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159]، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[يونس: 84، 85]، وقال تعالى: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [15]
وقال تعالى: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[يوسف: 67] وقال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12] ففي الآيات السابقة سيق لفظ الجلالة (الله) لفظ (التوكل) لأن "الألوهية جامعة لصفات الكمال مستدع للتوكل عليه سبحانه أو الأمر به"[16]، فالعلة في سورة آل عمران مثلًا: نتوكل عليه سبحانه لننال محبته ورضاه.
وفي سورة يونس: نتوكل عليه إن كنا قد حققنا مسمى الإيمان والإسلام في أنفسنا.
وفي سورة هود: علة التوكل ظاهرة حتى يلازمنا التوفيق والسداد.
وفي سورة يوسف: إن كان جميع الأحكام والتدابير منه سبحانه فلما لا نتوكل عليه فهو الحاكم والمدبر لجميع الأمور.
وفي سورة إبراهيم: لننال الهدى ونمتطي الصبر فعلينا التوكل عليه سبحانه.
ففي كل الآيات السابقة فيها نتذوق اسم الله تعالى وتعليل التوكل عليه لأنه قد فعل بنا ما يوجب ويستدعي التوكل عليه سبحانه[17].
وقال تعالى: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[هود: 56] وقال تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] وقال تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] وقال تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 42] وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10] وقال تعالى: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] وقال تعالى: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
ففي الآيات معاني وعلل للتوكل عليه سبحانه، فالرب هو المربي جميع عباده، بالتدبير، وأصناف النعم، وأخص من هذا تربيته، بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم، وأخلاقهم وفي كلمة الرب معاني الإقبال على الله تعالى الذي يرجي منه الخير، ويترقب حصولهن وانتظاره، ممن يملكه ويقدر على تحقيقه، فهو وحده ربنا لا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا يرجي سواه، ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن من نرجوه، ونخافه، ونخضع له، ونتوكل عليه إما أن يكون مربيًا وقيمًا بالأمور، ومتولي الشؤون، أو أن نكون له مملوكين وعبيدًا، أو يكون معبودًا لا نستغني عنه طرفة عين فمن كان كذلك، فهو جدير أن لا يستعاذ إلا به، ولا يستنصر بسواه ولا نلجأ إلا إلى حماه فهو الكافي، والناصر، والولي، والمتولي لجميع الأمور بربوبيته، وملكه، وألوهيته، فكيف لا يلتجيء العبد المؤمن عند النوازل إلى ربه، ومالكه، وإلهه[18].
وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] وقال تعالى في آية أخرى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11].
ففي الآيات ذكر اسم (الله) هنا، وهو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال، ففي آية آل عمران دليل صريح على أن التوكل على الله من الأيمان وفي نفس السورة من آية أخرى بيان خلق من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم يقصد به الاقتداء؛ لأنه الأسوة الحسنة، وهو القائد والهادي بالقول والفعل والصفات[19]، وفي الآيات تقديم للجار والمجرور؛ ليفيد الحصر في معرض التذكر بالمتأخرين رغبة في التأسي بالسلف والقيام بما جاء به الدين، وأنه يحدث لكم كما حدث لأولئك الكملة المتوكلين مع سيد المرسلين أيام ضعفهم وقلتهم، وفقرهمن وتآلب الناس كلهم عليهم[20].
فالآيات فيها حث وترغيب في التوكل على الله على فعل شيء مرغوب به شرعًا وينبغي على المؤمن أن لا ييأس، وعليه أن يتذكر أن الله، وليه فلا ناصر سواه، ويلزم من ذلك الاستمرارية والديمومة على التوكل، ويؤمن، ويصدق أن الذي له من صفات الجلال والعظمة والكمال، يستحق أن يكون التوكل له، لأن كل شيء مرده إلى لله، له الخلق والأمر، فينبغي الإيمان بأنه الرب لا إله غيره؛ فالآيات حض "على ألا نتوكل إلا عليه وألا نفوض أمورنا إلا إليه"[21]، فمن الثابت للمؤمن وبيقينه، وعلمه يتأكد له أن التوكل محقق لأمرين مهمين:
أحدهما: محبة الله للعبد المؤمن.
ثانيهما: كفاية الرحمن للعبد المؤمن.
فالتوكل عليه سبحانه لا يأتي إلا بمن وثق في أنه حق، ومن كان على الحق، يحق له أن يثق بالله، فإنه ينصره، ولا يخذله، فحق العبد المؤمن أن يداوم على التوكل على الله، وتخصيصه لله لا لغيره؛ ففي كل سورة ذكرت التوكل، وفي كل آية خصت المؤمنين بالتوكل، كان لها رصيد من التجارب، والحقائق، والتوجيهات التي لا تقدر بثمن؛ وما ذلك إلا لتقرير شريعة ومنهج الله سبحانه في صورة واقعية حية، "فالتوكل على الله من أعلى مقامات التوحيد، فإن من كان موقنًا بأن ربه هو المدبر لأموره، وأمور العالم كلها، لا يمكن أن يكل شيئًا منها إلى غيره"[22].
إذن التوكل على الله من لوازم الإيمان به، كما أشرنا سابقًا، بل هو من الإيمان في الصميم؛ لأن مفهومه داخل فيه، لا يخرج عنه، ولا ينفك عنه؛ لذلك فإن رسوخ معاني أسماء الله وصفاته في قلب العبد المؤمن للزمه أن لا يقدم إلا على ما يرضي الرب عز وجل، فيأمر نفسه بالمعروف، وينهاها عن المنكر، ويلزم نفسه، ألا يسمع، ويرى ربه منه، إلا ما يرضيه من قول أو عمل فيبصره حيث أمره، ويفتقد حيث نهاه.
الهوامش:
الهوامش:
[1] انظر: للأصفهاني، مجم مفردات ألفاظ القرآن، باب الباء، ص 50- 51، ولأحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، تحقيق: محمد باسل عيون السوط (بيروت: دار الكتب العلمية، طبعة الأولى 1417هـ) ص 1/250.
[2] أبو السعود، إرشاد العقل السليم، (5/522)
[3] ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، ص 1/41
[4] انظر: أبو السعود، المصدر السابق، ص 2/460
[5] الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج8، ج16، ص 243 -244
[6] رواه الإمام البيهقي في (الأسماء والصفات)، وابن أبي شيبة، قال الألباني في الصحيحة: حديث صحيح بطرقه.
[7] أنظر: أبو السعود، المصدر نفسه (4/182)
[8] انظر: للإمام الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، مج 12، (ج24، ص 173).
[9] محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (18-19/204)
[10] انظر لوهبه الزحيلي، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج 16مج (بيروت: دار الفكر المعاصر، دمشق: دار الفكر طبعة أولى 1411هـ)، ص 9-10/60.
[11] أبو السعود، المصدر السابق، (4/164).
[12] انظر: الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، (18-19/59)
[13] سعيد حوى، الأساس في التفسير، (10/6038)
[14] انظر: للألوسي، روح المعاني، (29-30/22)
[15] [هود: 88]
[16] أبو السعود، إرشاد العقل السليم، ص 1/439
[17] المصدر نفسه، ص 3/183.
[18] ابن القيم الجوزيه، بدائع الفوائد، (بيروت، دار الكتاب العربي، بدون طباعة)، ص 2/248.
[19] انظر: لأبي حيان الأندلسي، البحر المحيط، 8مج (دار الفكر طبعة الثانية 1398هـ) ص 3-4/ 143- 144.
[20] انظر: للمراغي، تفسير المراغي، ص2/71.
[21] سعيد حوى، الأساس في التفسير، ص 2/869.
[22] انظر: لمحمد رشيد رضا، تفسير المنار، ص 9/593.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.