إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فإن القرآن الكريم كتاب الله للعالمين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تعهده سبحانه بالحفظ إلى يوم القيامة.
كتاب نزل تشريعًا، ونزل بليغًا، ونزل منهاجًا، ونزل لترسيخ عقائد وسلوك، تقوم هذه العقائد بالمرء إلى السمو والتعالي، فالهدف الأسمى منه هو توحيد البعادة لله وإخلاصها له، وسلامة القصد والعمل من الانحراف عن جادة الحق في عبادة الله أو معاملة المخلوقين، وبهذا نصل إلى سعادة الدنيا والآخرة ونيل الثواب والمكرمات.
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] فكل عمل أمرنا به الله عز وجل هو تمجيد له سبحانه؛ ولأن العمل يكمل به الإيمان ويدل على وجود الإيمان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا"[1].
فالقرآن والإسلام يقيمان أخلاقًا على أسس روحية ضرورية لبناء صرح أخلاقي ثابت، فالعمل الصالح، وكذلك الخلق الحسن هو الثمرة المباركة للإيمان، ونور الإيمان يضي للمؤمن طريقه ، وبنور الإيمان يجد المؤمن نفسه في سكينة وثبات، وأمل ورجاء، وفي رضا وصبر، لما قدر وكتب الله، ويكون بنور لإيمان في عزة وقوة وما من مؤمن يقبل على الإيمان إقبالًا صادقًأ باتباع الأوامر، واجتناب النواهي إلا وكان له من الجزاء الغني والكفاية، وكشف الهم والفوز والغلبة فهذه الجزاءات، وهذه الثمرات "مكافأة من الله تعالى على فعل المؤمن"[2] في توكله على ربه، فهذه الثمرات دافع قوي لتقوية الثقة واللجوء والاستعانة والإنابة إلى الله تعالى، والاعتماد عليه في كل أمر من الأمور الدينية، والدنيوية، والرضا بقضائه وقدره خيره وشره.
والتوكل على الله عز وجل يكون في استجلاب المنافع، ودفع المضار في أمور الدنيا والآخرة وقد جعل الله عز وجل لكل عمل من أعمال البر ومقام من مقاماته جزاء معلومًا، وجعل كفايته جزاء المتوكل عليه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]
فلنتأمل هذا الجزاء الذي حصل للمتوكل، ولم يجعله لغيره، وما هذا إلا دليل على أن التوكل على الله من اقوى السبل عنده وأحبها إليه فكل شجرة لها ثمار، ومن ثمار التوكل على الله عز وجل ما يلي هذا التمهيد الوجيز.
أولًا: تحقيق الإيمان:
إن أول ما يجب على الإنسان أن يكون موقنًا من قلبه بوجود الله تعالى، ويجب عليه أن يعرف اسماء الله وصفاته سبحانه حتى يمسك نفسه عن الخروج عن أمره سبحانه، ويعمل على طاعته ولا يكون ذلك إلا بالعلم المتمكن من أعماق القلب ليأمن قلبه، وحياته من العمل المخالف لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
والتوكل على الله من أعلى مقامات الإيمان، حيث لا إيمان إلا بالتوكل على الله وقد تقدم سابقًا أن من فضل التوكل على الله أن ربطه سبحانه بالتوحيد، فصلة الإيمان بالتوكل كصلة البذرة بالشجرة، قال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]
وقال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]
فمن هذه الآية ظهر لنا التلازم بين الإيمان والتوكل على الله.
وقال تعالى: { وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 84، 85]
وفي هذه الآية كان التوكل على الله شرطًا لتحقيق الإسلام.
وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13]
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الملك: 29] ص247
وعلى هذا فالتوكل على الله أصل جامع تتفرع عنه العبادات والأفعال، وهو خلاصة ونهاية تحقيق التوحيد وهو أحد مباني توحيد الألوهية وهو وجه كمال إيمان المؤمنين[3].
الهوامش:
الهوامش:
[1] الترمذي (1162) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود (4682)، وأحمد (2/527)، والبيهقي في الشعب (1/26) وقال مخرجه: إسناده عنده حسن؛ والحاكم في مستدركه (1/3)، وقال الذهبي: صحيح؛ وذكره الألباني في الصحيحة (284).
[2] انظر: للكفوي، الكلياـ (2/178)، والأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، ص 91، والفيروزي آبادي، القاموس المحيط، ص 1640.
[3] انظر: لسليمان ابن عبد الوهاب، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، (المكتب الإسلامي، طبعة الرابعة) ص 110.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.