أحوال المتوكلين على الله عزوجل

أحوال المتوكلين على الله عزوجل






إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد، فقد قال الغزالي: أن التوكل هو اعتماد القلب على الموكل[1]. فالتوكل عند المؤمن تتفاوت أحواله في قوة الطمأنينة والثقة بالله تفاوتًا لا ينحصر إلى أن ينتهي إلى الأمر والعلم اليقيني. قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ففي الآية إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة لأن غيره ليس بيده الأمر[2]، وعلى هذا فإن النفس تسكن إلى الله عز وجل وتطمئن بذكره وتنيب إليه وتشتاق إلى لقائه وتأنس بقربه فتطمئن. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]
والمؤمن يطمئن إلى قدر الله فيسلم له ويرضى، فلا يسخط، ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه، وتلك الطمأنينة هي طمأنينة كذلك إلى امتثال أمره إخلاصًا ونصحًا، فإذا اطمأن المؤمن من الشك إلى اليقين، ومن الجهل إلى العلم، كانت نفسه مطمئنة.
قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] ولا يأتي التوكل الحق والإخلاص فيه والعلم بمضامينه إلا بعد المحبة التامة التي تستلزم الإرادة والقوة في حصول الأوامر. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما يحب الله ولا ينهى إلا عما يبغضه الله ولا يفعل إلا ما يحبه، ولا يخبر إلا بما يحب الله التصديق به؛ لذلك فإن القلب المؤمن لا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه وتوكله وإنابته لربه عز وجل، ولو حصل له كل ما يلتذ به او لم يحصل لم يطمئن ولم يكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من جهة العبادة، ومن جهة التوكل والاستعانة.
فالأمة أحوالهم في التوكل مختلفة:
  • منهم من لا يتوكل إلى على الله وحده، وهؤلاء هم المؤمنون الخلص. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]
  • ومنهم من لا يتوكل على الله البته وهؤلاء هم الملحدون الخلص.
  • ومنهم من يتوكل على الله وعلى غيره فهؤلاء هم المخلصون فمنهم المشرك ومنهم دون ذلك.
 ففي هذه الأقسام نرى أن الحالة الأولى هي لمن لزم الحق والصواب ولم يبقى في القلب تشويش أو إضطراب.
قال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]
فموافقة المؤمنين وامتثالهم لأمر الله ورسوله واستجابتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم جعلهم في حالة يقينية بحتة إلى درجة أن جعلوا الله حسبهم وكفيلهم وكانو على كلمة التوحيد، والإخلاص، والتوكل "حسبنا الله ونعم الوكيل" والمؤمن الحق من يخشى الله ويتقيه حق التقوى والخشية فيكو تبعًا لذلك الأثر في سكو، وقوة الاعتماد، وحسن الظن بالله تعالى، أنه ناصرهم لا محالة إن عاجلًا أو آجلًا، وهذا مجمل معنى الآية الكريمة التي يرد في نصها قوله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]
وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] فحال المؤمن أن يأوي ويلجأ إلى ربه لأنه عالم بقوته وخزائنه ملأى فسبحان الله العلي العظيم. فلا يدفع الشر ولا ينصر إلا الله ومن أظهر العجز لله وقام بما عليه ضمن الله له ما وعده إياه[3].
فالمؤمن إذا اعتقد أنه لا يضر ولا ينفع إلا  الله اعتمد قلبه واتكل عليه، فإذا لم يكن به ذلك فهذا سبب لضعف اليقين الذي يمازج القلب، ويشوب النفس؛ وما هذا إلا لجهل العبد، وعدم معرفته لله سبحانه، ومن هنا يأتي الاضطراب والفوضى والتخبط في العبادة، وفي الاستعانة والإنابة، والتوكل، فلابد من معرفة وعلم بالله نابعًا من الطريق الصحيح حيث تنزل المعرفة والعلم في سويداء القلب فيوقن بصدقها العبد؛ لذلك فكلما ارتقى علم الإنسان ومعرفته بالله ازداد بصيرة ويقينًا يغنيه عن غير الله وينزع من قلبه الإنابة والتوكل على من سواه.
قال تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] "فأول ما أراد الله تعالى من العباد أن يعرفوه عن الوجوه التي تعرف إليهم منها، فإنه قد تعرف إليهم من خلقه للخلق، وتدبيره في الخلق، ومن قدرته على الخلق، وتكلفه بأرزاق الخلق وإماتته الخلق، وإحيائه للخلق ألا له الخلق والأمر تبارك الله أحسن الخالقين"[4].
لذلك فإن المعرفة هي أساس وأصل كل شيء، ويأتي بعدها الإرادة وهي لامة لا تنفك عن المعرفة، والإرادة: هي تحقيق العمل والأخذ والعطاء، والحب، والكره في الأعمال كلها، ولنعلم أنه سبحانه جعل نجاة العبد أولًا في المعرفة، ثم في الإرادة. قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]
وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] "فالمراد أنه سبحانه دل على وحدانيته وسائر كمالاته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره"[5].
وقال تعالى: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] فالله سبحانه وتعالى تفرد بالوحدانية والألوهية وتعظم بتفرده الربوبية. وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]
"فالاختلاف في تفسير هذه الآية كله محتمل، فقيل: المعنى ما عرفوا الله تعالى حق معرفته، وقيل: ما عظموا الله تعالى حق تعظيمه، وقيل: ما وصفوه حق صفته"[6]. فالعباد جميعهم مختلفون ومتفاضلون في الإيمان والاعتقاد والأخلاق والمعاملات، لذلك هم يختلفون كذلك في التوكل، وتتفاوت أحوالهم فيه من ناحية قوة الطمأنينة والثقة وتتفاوت في القوة والضعف.
والتوكل في ذلك ثلاث محطات: التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض، فالمتوكل يسكن إلى وعده سبحانه، والمسلم يكتفي بعلمهن وصاحب التفويض يرضى بحكمه، وهذا إشارة إلى تفاوت درجاته ومحطاته، فإن العلم هو الأصل، والوعد يتبعه، والحمك يتبع الوعد، ولا يبعد أن يكون الغالب على قلب المتوكل ملاحظة شيء من ذلك.
 
الهوامش:
[1] الغزالي، كتاب التوحيد والتوكل، ص 42
[2] انظر لمحمد الأمين الجكني الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، (بيروت: عالم الكتب بدون طباعة) (1/35)
[3] انظر للإمام أبي الفرج جمال الدين الجوزي البغدادي، زاد المسير في علم التفسير، (1/450-4/47)
[4] عبد الله الحارث المحاسبي، آداب النفوس، دراسة وتحقيق عبد القادر عطا، (بيروت: دار الجيل، طبعة 1984م) ص 162.
[5] الألوسي، روح المعاني، (2/104)
[6] المصدر السابق، (2/104)

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
أحوال المتوكلين على الله عزوجل doc
أحوال المتوكلين على الله عزوجل pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى