الهوى والشهوات من موانع التوكل

الهوى والشهوات من موانع التوكل





إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد: فإنا إذا تأملنا أمراض القلوب من الجهل، وضعف اليقين، وضعف الثقة بالله تعالى، والتكبر والغرور، والعجب بالنفس، وكل ما يخطر من أمراض تصيب القلب وتوهن العبادة الحقة لله، فإننا نجد أن الدافع لها هو اتباع الهوى، لأن الهوى "ما هو إلا ميل النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع"[1]، وقيل "هو ميل الطبع إلى ما يلائمه"[2].
قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71]
"فالهوى والشهوات متلازمان، ولكن الهوى مختص بالآرا، والاعتقادات، والشهوات مختصة بنيل المستلذات، فصارت الشهوة من نتائج الهوى،ـ وعلى ذلك فإن الهوى أصل وهو أعم"[3].
إن الهوى والشهوات مرض يصيب القلب، ويوجب الفساد في القصد والإرادة، وعلى ذلك فقد استخلصت قسمين للناس فيه:
القسم الأول: ظفر الهوى والشهوات بالنفس فملكها وأهلكها وصارت طوعًا لها تحت أوامرها.
والقسم الثاني: أن تظفر النفوس وترتفع عن الهوى والشهوات وتصير هواها وشهواتها على مقتضى الكتاب والسنة.
فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الهوى وهذه النفس الأمارة بالسوء، والرب يدعو عبده إلى خوفه، ونهى النفس عن الهوى،ـ والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا مرة وإلى هذا مرة، وهنا موضع المحنة والابتلاء.
والشهوات تخون العبد وتسبب له المعاصي وتدفع لها، وتخبث بالنفس، "فإن العبد إذا وقع في شدة أو كربة، أو بلية خانه قلبه ولسانه، وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى، والإنابة إليه، والجمعية عليه، والتضرع، والتذلل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه فينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر الذكر، ولا ينحبس القل واللسان على الذكر، بل إن ذكر أودعا ذكر بقلب لاه ساه غافل، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه"[4].
قال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]
فمن رعاية الله لعبده داود ولعباده جميعًا أنه نبه للنهاية البعيدة التي تترتب على اتباع الهوى ونتائجه من الضلال عن سبيل الله[5].
"إن اتباع الهوى قد يكون اختيارًا، وقد يكون كرهًا، والنهي عن اتباعه يقتضي النهي عن جميع أنواعه، فأما الاتباع الاختياري فالحذر منه ظاهر، وأما الاتباع الاضطراري فالتخلص منه بالانسحاب عما جره إلى الإكراه... فالهوى كناية عن الباطل، والجور، والظلم لما هو متعارف من الملازمة بين هذه الأمور، وبين هوى النفس، فإن العدل والإنصاف ثقيل على النفوس فلا تهواه غالبًا، ومن صارت له محبة الحق سجية فقد أوتي العلم والحكمة وأيد بالحفظ أو العصمة"[6].
قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 49، 50]
فالله تعالى أنزل الحق متواصلًا بعضه أثر بعض حسبمًا تقتضيه الحكمة، أو متتابعًا وعدًا ووعيدًا، وقصصًا، وعبرًا، ومواعظ ونصائح لذلك فيجب الاحتراز عن اتباع الهوى والانهماك فيه فمن كان كذلك فهو أضل من كل ضال[7].
قال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29]
إن اتباع الهوى لظلم للنفس فالله تعالى يرشد للحق، وينبه على أن من اتبع أهواءه الزائفة، فهو واضع للشيء في غير موضعه، وهو بذلك معرض نفسه للعذاب الخالد، فالكل مفتقر إلى الله تعالى فلابد من إنابته، وتوكله ولا نشرك معه أحدًا أبدًا[8].
فالحق سبحانه هو الهدى، وغيره وما يدعوه إليه من الآراء والأقوال إنما هو هوى؛ لأنه قادم من أقوالهم التي لا تمت بالدين المعلوم صحته بالدلائل القاطعة، فكل من لاذ إلى الحق فلقد لجأ إلى المعين سبحانه وتعالى يعصم الناس إذا قاموا بالطاعة.
ويحذر تعالى عن متابعة الهوى والشهوات استعظامًا لصدور الذنب من تلك الأهواء الزائفة المضلة، ويؤكد ويبالغ في التحذير سبحانه وقد كانت منه حكمته تعالى في إرسال الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسو القلوب وتنسى الشرائع، وتقوم الأمم على تحريف، وتأويل تلك الشرائع على حسب أهوائهم، وتبعًا لشهواتهم، فقد وعد تعالى اتباع الهوى والشهوات بوعود قاسية لتحقيرهم، وتوبيخهم فلن يكون لهم ولي ولا نصير ولا واق يقيهم عذابه، فعلى المؤمن أن يرجع إلى ربه ويثبت على حكمه وشرعه فمن أطاع هواه كان قلبه غافلًا عن ذكر الله لسوء استعداده واتباع شهواته وإسرافه في ذلك غاية الإسراف، وتمادي في اجتراح الآثام، والأوزار فكانت النهاية الهلاك والعطب والخسران[9].
هذا وقد ذم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (اتباع الهوى والشهوات) (فعن أبي أمية الشعباني[10]، قال أتيت أبا ثعلبة الخشني[11] رضي الله عنه فقلت له كيف تصنع في هذه الآية؟ قال أية آية؟ قلت قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، قال: أما والله لقد سألت عنها خبير، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى مشبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم، قال عبد الله بن المبارك[12] وزاد في غير عتبة قيل يا رسول الله ! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال بن أجر خمسين منكم"[13].
"فالواجب الذي يلزم العمل به هو أن يكون جميع أفعال المكلف مطابقة لما أمره الله به معبوده جل وعلا، فإذا كانت جميع أفعاله تابعة لما يهواه، فقد صرف جميع ما يستحقه عليه خالقه من العبادة والطاعة إلى هواه، فكونه9 اتخذ إلهه هواه في غاية الوضوح، فمن أضله الله فاتخذ إلهه هواه...، فلا يكون أحد عليه وكيلًا أي حفيظًا يهديه، ويصرف عنه الضلال الذي قدره الله عليه؛ لأن الهدى بيد الله وحده لا بيد أحد"[14].
وهذا ما كان من معنى في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]
فالهوى والشهوات صادان عن الحق يذهبان نور الإيمان من القلوب، ويسلبان محاسن الوجوه، ويورثان البغضة في قلوب المؤمنين، وهما مصايد هلاك، فالتوكل على الله تعالى من العبادات التي ينبغي أن يكون مبناها على الشرع والاتباع لسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، لا على الهوى والابتداع والشهوات، فالإسلام مبني على أصلين أساسين:
أولهما: عبادة الله وحده لا شريك له.
ثانيهما: نعبده على ما جاء من شرع رسوله صلى الله عليه وسلم.
فنعلم من ذلك أن جميع المعاصي تنشأ من ترك الأصلين، وتقديم هوى النفس، وتخبط الشيطان، فينبغي على المرء المؤمن اللجوء إلى الله تعالى في دفع ذلك عن القلب، وما سمي الهوى هوى إلا لأنهه يهوي بصاحبه إلى قعر جهنم، ولكن التأسي بصفات السابقين الأولين رضي الله عنهم وأرضاهم، ومحاولة تتبع ما حذروا منه، والسير على منهاجهم والتمسك بما جاءوا به، وتمسكوا به من حق، فقد اقتضت سنة الله تعالى في أن يبذل البد لكل شيء ما يناسبه، فللدنيا سعي، وللآخرة سعي وللفضائل سعي، وللرذائل سعي.
إن جميع العوائق، والحواجز السابقة المذكورة وغير المذكورة لا يمكن علاجها إلا بمجاهدة النفس والاستعانة بالله تعالى والإنابة إليه، والتعود على تركه فهداية الإنسان ممكنة إذا كفر بعقله وآمن بشهوته وعبد هواه"[15].

الهوامش:
[1] الكفوي، الكليات معجم في المصطلحات والفروق الفردية، قابلة على نسخة خطية، د/عدنان درويش –محمد المصري، (القاهرة، دار الكتاب الإسلامي طبعة الثانية 1413هـ)، (5/344)
[2] ابن الجوزي، ذم الهوى، تحقيق مصطفى عبد الواحد، مراجعة محمد الغزالي (القاهرة: دار الكتب الحديثة، طبعة 1381هـ)، ص 12.
[3] الماوردي، أدب الدنيا والدين، تحقيق مصطفى السقا (بيروت، طبعة 1978م) ص 38.
[4] انظر: لابن القيم، الداء والدواء، تقديم محمد غازي، (جده، دار المدني، طبعة 1403هـ)، ص 123.
[5] انظر: لسيد قطب، في ظلال القرآن، (5/3018)
[6] انظر: لابن عاشور، التحرير والتنوير، (22-23-21/ 244)
[7] انظر: للألوسي، روح المعاني، مج (19-20/92)
[8] انظر المصدر السابق، مج (21-22/38)
[9] انظر: لأبي السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، (1/209)، المراغي، تفسيره، مج (1/165)، مجلد (5/113)، ولسعيد حوى، الأساس في التفسير، (7/354).
[10] أبي أمية الشعباني الدمشقي اسمه يحمد، وقيل عبد الله بن أخامر، تهذيب التهذيب، (10/17)
[11] أبو ثعلبة الخشني، اختلف في اسمه واسم ابيه اختلافًا كثيرًا، قيل إن اسمه جرثومه، وقيل جرهم؛ انظر: تهذيب التهذيب، (10/53)
[12] عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظللي التميمي، مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي، ولد 118هـ، وتوفى 151هـ، أنظر تهذيب التهذيب، (4/457)
[13] الترمذي (3058) واللفظ له، وقال حسن غريب، وأبو داوود (4341)، وابن ماجه (4041)، والبغوي في شرح السنة (14/348)، وقال محققه للحديث شواهد فيتقوى بها.
[14] انظر للشنقيطي، أضواء البيان، (بيروت، عالم الكتب بدون طبعة) (6/330)
[15] انظر للجزائري، أيسر التفاسير (المدينة، مكتبة العلوم والحكم طبعة الثالثة، 1418هـ) (4/618)

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الهوى والشهوات من موانع التوكل doc
الهوى والشهوات من موانع التوكل pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى