إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ إن موانع التوكل هي حواجز تجعل من العبد سكونًا، وكفا وتمنعًا، وهي أمور مذمومة شرعًا لدرجة أن منها ما يؤدي إلى الكفر والشرك بالله تعالى، واقتضت الحكمة الإلهية أن يجعل للبشرية –خاصة المؤمنة منها – أعداء من شياطين الجن يوسوسون لشياطين الإنس بالضلال والشر والأباطيل، ليضلوهم؛ ويصدوهم عن التوحيد، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
إن المتأمل لأحوال الناس اليوم، يجد أن بعضهم عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها ومنهياته فاستباحوها، ومأموراته، فاجتننبوها ونبذوها وتركوها، وقطعوا الأسباب بينهم، وبين خالقهم، ورازقهم، وهم بذلك سلكوا مسلكًا مؤديًا إلى التلبس بكل ما يقود إليه.
والسلوك يتأثر بالإيمان، وممارسات صاحبه؛ فلذلك يضعف الإيمان واليقين، وينقص إذا وقع صاحبه في المكروهات، والمحظورات، "لأن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[1] [الحجرات: 15]
ومداخل وأبواب الشيطان كثيرة وتضعف يقين وإيمان العباد، والثقة بالله تعالى، لذلك كان من الواجب حماية القلب من وساوس الشيطان، وسد مداخله، ونزعاته بتطهير القلب من الصفات المذمومة، وذلك ببذل الجهد في التزكية، وسؤال الله، والإعتماد عليه فيها وفي الحديث "عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى"[2].
فالإخلاص القصد والعمل لله، ومتابعة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تجعل من المخلص أن يتذوق حلاوة عبوديته واستسلامه لله " إذ ليس عند القلب السليم أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي إنجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيبًا إلى الله قوى العلاقة فيما بينه وبين ربه راغبًا راهبًا طاردًا كل وساوس الشيطان واثقًا، وموقنا أن الله تعالى إذا حكم، وقدر وقضى أمرًا، فلا مرد لقضائه، ولا معقب لحكمه"[3].
فمن أكبر عوائق التوكل على الله تعالى هو أن يضعف يقين العبد بالله تعالى؛ لأن قوة اليقين، والثقة بالله تعالى هي من أنواع أغذية القلوب فإذا نقص الغذاء مرض القلب، وانحرف ومال للسماع الشيطاني، وبعد العبد عن الله، وغلظ حجابه فيما بينه وبين الله تعالى، وأصبح كالحيوان.
قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] فالآية الكريمة في معرض الاستهزاء بعقولهم، وتمثيلهم بالأنعام، فالأنعام ليس لها عقول، وهؤلاء لهم عقول ضيعوها، ولأن الأنعمام تطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وهؤلاء يتركون أنفع الأشياء وهو الثواب، ولا يخافون أضر الأشياء وهو العقاب[4].
فمن ضعف يقينه، وثقته بالله تعالى، فلن يرضى بحكم وقضاء الله في جميع أمور معاشه، ويترتب على ذلك أنه لا يأمن من فوق المقدور له، وذلك راجع لجهله بمعرفة الله تعالى، وأن قضاه سبحانه لا مرد له ألبته، ولضعف يقينه " فعلى العبد أن يقف على ما قام بالحق من أسماء وصفات ونعوت كمال وتوحيدهن وبهذا يحصل له اليقين"[5].
فضعف اليقين والثقة بالله يضعفان:
- العزم والإرادة على عمل ما يرضي الله ورسوله، فكل ما في الكون يدعو العبد إلى إزاحة الشك ومعرفة الحق.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، "فالله تعالى يبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله عز وجل... فالله تعالى جلاله الأمر سره وعلانيته... وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة، والدلالات القاطعة"[6]، فجميع المخلوقات دالة على وجود صانع خالق لها سبحانه.
وما فعل إبراهيم عليه السلام من إرادة مخلوقاته سبحانه الكونية السمائية إلا ليؤكد لنفسه أن للعالم صانعًا واحدًا سبحانه.
- أن ضعف اليقين والثقة يفضيان إلى عدم الإيمان بالغيب، ويضعفانه.
"فالإيمان بالغيب الذي أخبر به الحق سبحانه على لسان رسله من أمور المعاد، وتفصيله، والجنة والنار، وما قبل ذلك من الصراط والميزان، وما قبل ذلك من أمور البرزخ، نعيمه وعذابه من درجات اليقين"[7].
قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3، 4]، " قال ابن عباس: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4]، أي يصدقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤهم به من ربهم، وبالآخرة يوقنون أي بالبعث والقيامة، والجنة والنار، والحساب والميزان"[8]، فكل من حاد عن الحق، واختلف فيه ضعف يقينه، وثقته بالخالق فالحق هو اليقين، قال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] إن الآيات القرآنية مليئة بالدعوة إلى الإيمان والنظر في ملكوت السماوات والأرض، والدعوة إلى الإيمان بالغيب حتى يستقر في قلب كل مؤمن التوحيد واليقين والثقة بالله.
ومن هذه الآيات قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24]، وقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20]، وقوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 4]، فالآيات السابقة: "يرشد فيها الله تعالى إلى التفكر في آلائه ونعمه، وقدرته العظيمة التي خلق بها السماوات والأرض وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس، والأنواع من الملائكة، والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش، والسباع والحشرات وما في البحر من الأصناف المتنوعة، واختلاف الليل والنهار، وفي تعاقبهما دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وما أنزل الله تبارك من السحاب، وغيرها، لآيات لقوم يوقنون"[9]، إيقانًا تامًا لا يخالطه أدنى شك فهي جميعها تدل على قدرة الله تعالى، وقدرة الصانع العظيم، وحكمته التي يعتبر بها أهل اليقين أهل العلم والمعرفة.
إن الريب في قدرة الله تعالى من أسباب المعاصي التي تجعل العبد في ضعف وخور في الإيمان، ويقينه بخالقه، ورازقه، ومدبر أمره، فعدم خشية الله، ومراقبته تجعل العبد يستخف بوعده سبحانه ووعيده، لهذا كان لزامًا على كل عبد مؤمن أن يتقي الله ويخشاه حق خشيته، ولن يكون ذلك إلا بالعلم المستقر في القلب الثابت من الأسباب المتعينة له بحيث لا يقبل هذا العلم إلا الزيادة لا النقص والهدم. فقوة اليقين تقوي التوكل على الله؛ لأن بقوة اليقين يزيد المسلم من ربه قربًا، وحبًا، ورضى بما قسمه له سبحانه، من أمور معاشه وبه يتبع النور فيسلك العبد طريق السلامة.
ومن هنا نرى أنه كلما زاد الإيمان زاد اليقين، وكلما ضعف الإيمان ضعف اليقين؛ لأن اليقين هو لب الدين ومقصوده الأعظم، فينبغي على العبد أن يتقي الله عز وجل، ويصدق في ذلك لسانه ونية إرادة وعزمًا، ويكون بين الخوف والرجاء بما عند الله "فالخوف والرجاء جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، قال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[10] [السجدة: 16].
لذلك فإن من اتقى، وصدق وخاف، ورجى فسيسلم من وسوسة الشيطان ومداخله، ومن كان بعيدًا عن ذلك، فإنه لا يسلم من مداخلات الشيطان، فربما بل حتمًا سيعتقد فيمن لا يستحق الاعتقاد، ويخاف ممن لا يستحق الخوف، فينقاد إلى الاعتقاد أن القضاء والرزق والمقدرات من عند غير الله، وبذلك سيقدح توكله، واستعانته؛ لأن الصدق واليقين قرينًا التوكل فمن يقن ووثق بوعد الله تعالى، وضمانه لا يخاف فوت رزقه، وملا منازعة أحد له في رزقه ومعاشه.
قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات، من سائر دواب الأرض صغيرها، وكبيرها بحريها وبريها، وأنه يعلم مستقرها، ومستودعها أي يعلم أين منتهي سيرها في الأرض، وأين تأوي إليه من وكرها وهو مستودعها، فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علمًا بذواتها وصفاتها"[11].
وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22، 23] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] فالآيتان الكريمتان السابقة ينثلج بها الصدر، ويحصل بها اليقين والثقة عند علمه أن الله الكافي عباده الرزق وحصول المنافع، وهذا مما يوجب للعبد المؤمن القيام بتوحيد الله، والاعتماد على ربه في حصول ما يحب.
فالمؤمن ينبغي عليه أن يدفع الضعف بمعرفة الله وبالوجوه التي تعرف من خلقه للخلق، وتدبيره للخلق، ومن قدرته على الخلق وتكفله بأرزاق الخلق، وأماتته للخلق، وإحيائه للخلق، آلا له الخلق والأمر، تبارك الله أحسن الخالقين. لأن ضعف اليقين والثقة بالله إذا استحكم، وغلف القلب، يورث ويقود إلى الخسران المبين، وإلى طول الأمل، ويورث التخبط في الدنيا، وعدم النظر إلى العواقب، ويضعف العلاقة بين المسلم وربه فيضعف التوكل على الله، ويزيد العبد خضوعًا، واستكانة لغير الله وما لهذا خلق المؤمن، فقد خلق لعبادة الله، وتوحيده المتضمن أنواع التوحيد الثلاثة (ربوبية –ألوهية –أسماء وصفات).
خلق لتدبر آيات القرآن الكريم، والاستفادة من علومه ومعارفه وأحكامه، ومعرفة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تضمنته من علوم الإيمان وأعماله، فهذه جميعها من الأمور التي تقوي الإيمان وتجلبه للنفس حتى تسكن إلى المضمون وتثق بالله، وينعقد القلب لسيده؛ لأنه إن أعطى لم يقدر أهل الأرض أن يمنعوه، وإن منعه لم يقدر أهل الأرض أن يعطوه، لأن سلطان الله عظيم، وبتوكل العبد عليه يكفيه، فالتوكل محض الإيمان والناس يتفاضلون في التوكل، والإيمان على قدر اليقين[12].
الهوامش:
[1] انظر: للحكمي، معارج القبول (بيروت، دار الكتب العلمية، طبعة 1403هـ) (1/308)
[2] مسلم (4/2087)، ح (2721) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار.
[3] انظر: لابن تيمية، العبودية، ص 140
[4] انظر: للكلبي، التسهيل لعلوم التنزيل (بيروت، دار الكتاب العربي، طبعة الرابعة 1403هـ) (3/79)
[5] ابن القييم، مدارج السالكين، (2/420
[6] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (2/241)
[7] ابن القيم، مدارج السالكين (2/418)
[8] انظر: الطبري، جامع البيان (1/95)، ولابن كثير، تفسير القرآن العظيم (1/68)، وللألوسي، روح المعاني، (21/122)
[9] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (4/225)
[10] انظر: لسعيد حوى، المستخلص في تزكية النفوس، ص 327.
[11] انظر: جامع البيان، (4/257)، ولابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (2/676)، وللطبري، وللسعدي تيسير الكريم الرحمن، (2/386)
[12] انظر: المحاسبي، آداب النفوس، ص 197-198.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.