إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ إن موانع التوكل هي حواجز تجعل من العبد سكونًا، وكفا وتمنعًا، وهي أمور مذمومة شرعًا لدرجة أن منها ما يؤدي إلى الكفر والشرك بالله تعالى، واقتضت الحكمة الإلهية أن يجعل للبشرية –خاصة المؤمنة منها – أعداء من شياطين الجن يوسوسون لشياطين الإنس بالضلال والشر والأباطيل، ليضلوهم؛ ويصدوهم عن التوحيد، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
لقد بين الله سبحانه لعباده حقيقة الإيمان الذي تقبل به الأعمال، ويتحقق به ما وعد الله به المؤمنين.
فالإيمان المقبول هو الاعتقاد الذي لا يخالطه ريب ولا شائبة، فالإيمان يزيد وينقص ولا بد أن نفوز بتحقيق الإيمان وأن نقيمه، وهذا يحتاج إلى المزيد من إصلاح القلوب وتنقيتها من الأمراض الصادة عن الهدى، وإذا أراد العبد إيمانًا صحيحًا فعليه بالعلم والمعرفة.
إن الجهل بأسماء الله وصفاته أمر مذموم غير ممدوح، حذر القرآن الكريم منه حيث، قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] فالتحريف والميل بأسمائه إلى غير الصواب لهي من الجهل لا من العلم بمكان، فالجهل نقيض العلم[1]، والجهل اعتقاد بالشيء خلاف ما هو عليه[2].
إن جهل أسماء الله وصفاته سبحانه قريبة بمن يعطلها عن معانيها، ويجحد حقائقها، ومن هؤلاء الغالي، والمتوسط، والمنكوب، ومن يشبهها بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون، فلا ينبغي للعبد تأويل هذه الأسماء والصفات عن ظاهر الآيات والأحاديث الصحيحة إلى معنى آخر، ولا تعطيلها بأن يجحد تلك الصفات وينفيها عن الهل كعلو الله على السماء، فقد زعمت الفرق الضالة أن الله في كل مكا، وليس لنا أن نكيفها بدون علم، فلا يعلم كيفيتها أحد إلا الله، ولا ينبغي أن نمثلها بصفات خلقه.
فالجهل علامة من علامات مرض القلوب فإذا جهل العبد أسماء وصفات خالقه تعذر عليه فعل الذي لأجله خلق وهو العلم، والحكمة والمعرفة، وحب الله تعالى، واستعانته، وإنابته، وتوكله "فمن الجهل أن يشكو العبد الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل، فإنه لو عرف ربه لما شكاه وفي هذا قيل:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
فلو كان عارفًا عالمًا لشكى إلى الله وحده، فهو بذلك ناظر إلى قوله تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30][3]، فتوحيد الله بأسمائه وصفاته دعت إليه الرسل جميعًا، ودعا إليه القرآن الكريم، قال تعالى: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1، 2]، وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت به ملائكته، وأنبياؤه، ورسله.
قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18، 19]، "فتضمنت هذه الآية الكريمة معنى إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجل شهادة، وأعظمها، وأعدلها وأصدقها، من أجل شاهد بأجل مشهود"[4].
فالجاهل ظالم لنفسه إذ أنه يتخبط في سؤال من يستحق السؤال فإذا ترك سؤال من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فقد أقام السائل نفسه، مقام الذل، وأهانها بذلك، وإذا استعان بغير الغلي القدير دفع نفسه للهوان والمذلة، والمضرة؛ لانه تعالى القادر على كل شيء، وغيره عاجز عن كل شيء، وأي شيء حتى في استجلاب المصالح لنفسه.
"ذكر أبو قدامة الرملي[5] قال: قرأ رجل هذه الآية { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58، 59]، فأقبل سليمان الخواص[6]، فقال يا أبا قدامة ما ينبغي لعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله في أمره، ثم قال: كيف قال الله تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} فأعلمك أنه لا يموت، وأن جميع خلقه يموتون، ثم أمرك بعبادته، فقال وسبح بحمده، ثم أخبرك أنه خبير بصير، ثم قال: والله يا أبا قدامة لو عامل عبد الله بحسن التوكل، وصدق النية له بطاعته، لاحتاجت إليه الأمراء فمن دونهم، فكيف، يكون هذا محتاجًا ومؤمله، وملجؤه، إلى الغني الحميد"[7].
فالمؤمن ينبغي أن يكون متوكلًا على الله الحي الذي لا يموت في أموره، وشؤونه جميعًا دقها، وجلها، "والجهال بالله وأسمائه وصفاته المعطلون لحقائقها يبغضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريق محبته، والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون"[8].
فالعبد عليه أن يعرف الله ربه المعرفة الحقة، ويجهد نفسه في ذلك من خلال مطالعة الكتاب والسنة، فمثلًا لو أخذ العبد اسم (الرحمن) للاحظ أن الله تعالى رحيم رحمان بعباده أنزل الرسل مبشرين، ومنذرين، معرفين هاديين مهديين موحدين نزلوا جميعهم وأرسلوا اليعرفوا الناس بالإله الواحد الرحمن الرحيم، قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، فالنعم، والإحسان، كلها من آثار رحمته وجوده وخيرات الدنيا والآخرة كلها من آثار رحمته "فسبحانه المنعم بجلائل النعم، ودقائقها، المفيض بتجدد وسعة لا منتهى لهما"[9]، فالرحمن "اسم دال على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المتبعين، لأنبيائه ورسله، فؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم، فله نصيب منها"[10].
فالله تعالى يرحم عباده الغافلين اللاهين فيرشدهم ويلهمهم طريق الرشاد والنصح بأفضل طريقه، وأن ينظر سبحانه بعين الرحمة لعباده العصاة، فينور لهم طريق الحق والصواب، ويعين عبده المؤمن لينال الكمالات بأن يعرفه بنفسه وبصفاته وأسمائه وآلائه، ويبين له كل ما يحتاجه إليه من مصالح دينه ودنياه، ويدفع عنه كل نقمة.
ومن هنا فإذا علم العبد أن ما به وبالعباد من نعمة، فمن الله، علم أن الله هو المستحق لجميع أنواع العبادة، وأن يفرد بالمحبة والخوف، والرجاء والتعظيم، والتوكل وغير ذلك من أنواع الطاعات، ويعلم بذلك العبد أن الله رحمن رحيم عزيز غالب، ولن يكون بعد هذا مطلب للمؤمن إلا الحصول على رضا الرحمن، والعمل بطاعته، وما يتحقق ذلك إلا بمعرفة العبد أن الأمور كلها بيد الله، ولن يعول على سواه؛ لأنه الآله الخالق ذو العبودية والألوهية.
قال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116]، فمن يجهل أسماء الله وصفاته كان عبًا لمخلوق مثله " وربما صار معتمدًا على غير الله فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله ولا حقيقة التوكل عليه بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله"[11].
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الملك: 29]، علم المؤمنون برحمته بتوصيله للمنافع، وأنه المتصرف وحده، الذي قصد بالخلق معرفته، وعبادته "ففي ذكر الرحمن هنا إشارة إلى أن أهل الإيمان مرحومون، وفعل الله بالمؤمنين دائمًا محفوف بالرحمة وذلك أن من آثار رحمته أن جعلهم يتوكلون عليه وأمرهم بالتوكل، لأنه سبحانه هو أهل للإيمان به وأهل للتوكل عليه"[12].
ولو نظرنا لحال من جهل مقام القوة وعظيم القدرة والغلبة فإن مصيره مصير من قبله من الأمم، قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65]، فالله قادر على إنزال العذاب كما أنزله على قوم نوح، والصيحة كما حصب قوم لوط، وكما رمى أصحاب الفيل، وكما زلزل وخسف بقارون فكل شيء دان، وخضع له، وذلت جميع الكائنات فهو الخالق السيد الذي قد كمل في سؤدده.
وأما من جهل افتقاره إلى الله فيحق له عذاب الحريق، قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181، 182]، إن جميع الخلق فقراء إلى الله عاجزون، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا ولاخيرًا ولا شرًا، فهو تعالى (الغني ) الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه لا يتطرق إليه الفقر أو النقص بوجه من الوجوه، والمخلوقات بأسرها لا تستغني عنه في حال من أحوالها، فهي مفتقرة إليه في إيجادها، وفي بقائها، وفي عملها، وفي كل ما تحتاجه أو تضطر إليه، ومن سعة غناه، أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا ولا شريكًا في الملك، ولا وليًا من الذل، فهو الغني الذي كمل بنعوته وأوصافه، المغني لجميع مخلوقاته ومن كمال غناه وكرمه أنه يأمر عباده بالسؤال ويعطيهم.
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، " ومن كمال غناه سبحانه ما يبسطه على أهل الإيمان من عطاياه من النعيم، واللذات والخيرات، والمغني لخلقه، بما أفاض على قلوبهم من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية[13]"، إن لله تعالى رزاق كريم رزقه عام لجميع عباده، وله سبحان رزق خاص لخواص خلقه المؤمنين، فكل ما يحتاجونه في معاشهم، وقيامهم، مسهل للأبرار والفجار من الآدميين والجن والملائكة، ولكن ما يخص المؤمن هو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة وهذا نوعان:
- رزق القلوب بالعلم والإيمان، فجميع القلوب مفتقرة إلى هذا الرزق، ولن تغني إلا إذا كانت عالمة بالحق مريدة له.
- رزق البدن بالرزق الحلال، فينبغي للمؤمن إذا دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه الرزقين رزق الهدى والإيمان، ورزق ما يصلح البدن من الحلال النافع، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات: 58]، وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
فالله تعالى سهل الأرزاق، ودبرها وساق إلى كل مخلوق صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، فالله تعالى رزقه لعباده مضمون، وما خلق الخلق إلا لعبادته لا ليرزقه، فسبحانه ذو القدرة الكاملة، شديد القوة، كثير الرزق[14]، فكل من طلب الرزق، والعون من غير الله، فقد اعتمد على ضعيف ذليل مثله لا ينفعه، ولا يضره، وإن اعتقد ذلك، فسبحانه لا ينبغي أن يدعي سواه، ولا يرجي، ولا يطلب ولا يتوكل إلا عليه، لأن من نرجوه، ونخافه ونتوكل عليه هو القيم والمتولي لتدبير خلقه فمن اتخذه وكيلًا كفاه، فهو الإله الحق كيف لا نلتجيء إليه سبحانه! فهو الناصر والرازق.
قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
الهوامش:
[1] انظر: لابن منظور، لسان العرب، (2/713)
[2] انظر: للجرجاني، التعريفات، ص108، رقم 517.
[3] انظر: لابن قيم الجوزية، الفوائد، ص 114
[4] انظر: لابن أبي العز الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية، ص 90.
[5] أبو قدامة الرملي عن عبد العزيز بن قر، مجهول، وأتى بخبر منكر، انظر: ميزان الاعتدال ترجمة رقم (10530)
[6] سليمان الخواص من العابدين الكبار بالشام، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، (8/178)، وترجمة 235، وحيلة الأولياء للأصبهاني (8/276)، ترجمة 407.
[7] انظر لابن أبي الدنيا، التوكل على الله، تحقيق مجدي إبراهيم، (القاهرة: مكتبة القرآن، بدون طبعة، ص 48)
[8] انظر لابن قيم الجوزية، الفوائد، ص 207
[9] انظر: محمد رشيد رضا، تفسير المنار، (1/51
[10] انظر: للسعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 1/31
[11] انظر لابن تيمية، العبودية، ص 102
[12] انظر لسعيد حوى، الأساس في التفسير (10/6038)
[13] انظر: لعبد الرحمن السعدي، الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية، ص 47-48
[14] انظر: لسعيد حوى، الأساس في التفسير، مج (10/5524- 5525)، وللسعدي، تيسير الكريم الرحمن، (5/109)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.