الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ فإن جميع رسل الله يعرفون مصدر قوتهم، وملجأ الأمان ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والكفر، ويتوكلون على ربهم وحده في خوض معركة لهم لا مفر منها مع أقوامهم إلا بدعاء وفتح من لله، فكل مؤمن داعيًا إلى الله تعالى في حاجة ماسة إلى التوكل واللجوء لله سبحانه وتعالى، فقد أطلق كل الدعاة المؤمنين الحقيقة الدائمة، وهي على الله وحده دون سواه يكون التوكل ولا لجوء، ولا عون، ولا إنابة إلا له العزيز الحكيم، فعلى كل داعية أن يواجه الكبرياء بالإيمان، والأذى بالإعراض فالتوكل هي كلمة المؤمنين الذين ملئوا قلوبهم بالثقة من نصر الله تعالى وتأييده، والمؤمنون هم الذين يشعرون ويحسون أن يد الله تعالى تقودهم وتهديهم إلى الصراط المستقيم.
"وهذه الحقيقة – حقيقة الارتباط في قلب المؤمن بين شعوره بهداية: الله وبين بديهية التوكل عليه لا تستشعرها إلا القلوب التي تزاول الحركة فعلًا في مواجهة طاغوت الجاهلية، التي تستشعر في أعماقها يد الله سبحانه وتعالى وهي تفتح كوي النور فتبصر الآفاق مشرقة، وتستروح أنسام الإيمان والمعرفة، وتحس الأنس والقربى وحينئذ لا تحفل بما يتوعدها به طواغيت الأرض، ولا تملك أن تستجيب للإغراء ولا للتهديد، وهي تحتقر طواغيت الأرض، وما في أيديهم من وسائل البطش والتنكيل، وماذا يخاف القلب الموصول بالله على هذا النحو؟ وماذا يخيفه من أولئك العبيد؟![1].
هذا ما دلت عليه الآية الكريمة في سورة إبراهيم: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 11، 12]، إن نبوة ورسالة جميع الرسل وأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانت منة من الله، أذن لهم بها وأيدهم بالحجة وتوكلوا على الله وقصدوه فإنه سبحانه لم يضيرهم وهو أعلم بما ينفع أولياءه، فكل شيء متعلق بأمر ومشيئة الله وإذنه، فالطاعات أذن بها الله تعالى وأمرنا بالسعي والتوكل عليه فيها حتى تكون على أكمل وجه لنرضى بها خالقنا.
فرسل وأنبياء الله توكلوا في جميع أمورهم على الله تعالى، فكيف بنا إذن؟ فالأولى والأحرى أن نكون نحن أيضًا من المتوكلين على الله؛ ليهدينا إلى أقوم الطرق وأوضحها وأبينها[2]، وقد أمر الرسل المؤمنين كافة بالتوكل وقصدوا به أنفسهم قصدًا أوليًا. هكذا كان الإسلام وسيظل بعقائده وحقائقه وأخلاقه وأعماله يحث على كل ما هو نافع مزك للقلوب مطهر للأخلاق والسلوك نافع للين والدنيا، والقرآن الكريم يربي في النفوس ويعدها لأدوار عظيمة ضخمة لبناء مجتمع إسلامي ذي أخلاق وعادات ترفع من لواء المؤمنين جميعًا، فهو يخاطب المؤمنين بنداء حبيب إلى نفوسهم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، لينهاهم أو ليأمرهم بأمر ما، فما على المؤمن إلا اتباع تعاليم ومنهجية الشارع سبحانه وتعالى فيما أمر ونهى، وتقرير موقفه من ربه وثقته به وتوكله عليه.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الملك: 29]، عليه لا على غيره أصلًا لعلمنا بأن ما عداه كائنًا ما كان بمعزل من النف والضر وعليه توكلنا في جميع امورنا[3]. والتوكل على الله أساسًا أمر مبني على أسس أخلاقية، وهذا ما كان في قول حاتم الأصم[4] "عندما سأله رجل علام بنيت أمرك في التوكل على الله؟ قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحي منه"[5].
فالأساس الأول: الرزق، فالمؤمن لابد أن يوقن أن الله تعالى قد كتب لكل مخلوق رزقه، ولا تموت نفس حتى تستوفي رزقها الذي كتبه الله عليها، ولا يمكن لمخلوق أن يأخذ رزقًا قد كتبه الله لمخلوق آخر، والإنسان يعيش ويمارس هذه الحقائق الكبرى فتطمئن بذلك نفسه، ولا يقلق بكثرة الانشغال والخوف على رزقه.
الأساس الثاني: العمل، فالتوكل على الله في الأعمال الصالحة من أشرف أنواع التوكل إذ أن القائم فيها لا يبتغي عرضًا من أعراض الدنيا بل يريد وجه الله، قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]
الأساس الثالث: الموت، فهذا الأساس له صلة بالأساس السابق، من حيث المؤمن حينما يستيقن ويستحضر دائمًا أن الموت يأتي من غير ميعاد، فإنه دومًا سيكون مستعدًا ويسابق الموت بالأعمال الصالحة، فإذا ما جاء الموت، كان المؤمن قد أعد الزاد ليوم الرحيل.
الأساس الرابع: المراقبة، لا يمكن للمؤمن ان يتوكل على الله حق توكله حتى يشعر رقابة الله عليه ، مما يجعله يستحي أن يفوض أمره لغيره وهو يؤمن بقدرته على قضاء حوائجه، لهذا كان هذا الأساس من أهم الأسس الذي ينبني عليه أمر التوكل، والقرآن مليء بالآيات التي تؤصل مراقبة الله في نفس المؤمن، حتى لا يتجه إلى غير الله تعالى. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]
فالتوكل على الله من أخلاق المعاملة، معاملة المؤمن لربه عز وجل، فلابد أن ترتقي هذه المعاملة، ورقيها نابع من طاعة المرء لربه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 12، 13]، فأمر الله بطاعته ورسوله فيما شرع وفعل ما به أمر وترك ما عنه نهى وزجر... فسبحانه يخبر أنه الأحد الصمد الذي لا إله غيره فقال "الله لا إله، فالأول خبر عن التوحيد ومعناه معنى الطلب أي وحدوا الإلهية له وأخلصوا لديه وتوكلوا عليه وحده فهذا هو أثر التصور الإيماني في القلوب، وفي هذا (إيماء) إلى أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه، ولا يتقوى إلا به، لأنه يعتقد أنه لا قادر في الحقيقة إلا هو وفي الآية: دليل على أن من لا يتوكل عليه ليس بمؤمن[6].
إن من يرزق وينعم بطاعة الله والتوفيق لما يحبه ويرضيه سبحانه فهو دائم التقوى والخوف من العزيز الحكيم، وتبرز من هنا قيمة الإيمان، والطاعة؛ لأن بعد هذا لا خوف ولا مهابة إلا منه عز وجل، فالله لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين: مخافته جل جلاله، ومخافة الناس، فيرسخ بذلك الإيمان، ولا يسع المؤمن إلا أن يتوكل على الله وحده؛ لأن ذلك منطق الإيمان، ومقتضاه وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]
فالعبد يجد الإيمان في قلبه بعد طاعة ربه، ويزيد إيمانه بقدر فعله للطاعات، وقد عرض القرآن الكثير من الطاعات التي تزيد إيمان المرء بربه منها على سبيل الذكر لا الحصر، مخافته سبحانه والإنابة إليه، ذكره سبحانه التوكل عليه. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]
فالمؤمن هو الذي لا يخالف الله ورسوله ولا يترك اتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدود وفرائض، وهو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه، وانقاد لأمره وخضع لذكره، خوفًا منه، وهربًا من عقابه، وإذا قرنت عليه آياته أيقن بها وازداد تصديقًا لها، تصديق فضل عن تصديقه بما كان قد بلغه منه قبل ذلك، وذلك هو زيادة ما تلى عليه من آيات الله إياه إيمانًا " وعلى ربهم يتوكلون" أي يوقنون، في أن قضاءه فيهم ماض، فلا يرجون غيره، ولا يرهبون سواه[7].
وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وقال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، فالإيمان يزيد في قلب وحياة صاحبه، يزيد ويزيد حتى يملأ قلب ووجود صاحبه، ويكون نورًا يضيء له حياته، ويكون هو قد تمثل الإيمان عمليًا في حياته، وتجسد الإيمان به وحل في كيانه، كلامه إيمان، ونظره إيمان، وسمعه إيمان وذهنه إيمان قيامه قعوده إيمان، نومه ويقظته إيمان، حركته سكونه إيمان، أنفاسه ودقات قلبه إيمان، أو لنقل: إنه هو الإيمان.
فسمه التوكل على الله من صفات من هم في إيمان، "لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه سبحانه ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب"[8].
فالتوكل على الله مقتضي الإيمان والإسلام، وهذه حقيقة لا يرتاب أحد فيها، فيتضح لنا أن القرآن الكريم قد عرض في آياته الكريمة من صفات أهل الإيمان أهمها وأشهرها، ودعت المؤمنين أن يتصفوا بها حتى يعيشوا حياة إيمانية، وينالوا جنة الله وثوابه، ونعيمه والمؤمن حريص على أن يكون مع ربه، وهذه الصفات تتفاوت قلة وكثرة قصرًا وطولًا، والتوكل على الله من أهم هذه الصفات؛ لأنه صفة متصلة برب العباد مباشرة، وقد أكد عليها القرآن في آياته، واستمرار عرضها في سور مكية ومدنية يدل على أهمية اتصاف المؤمنين بها وتحققها فيهم، وأهمية التذكير المستمر بالتوكل على الله حتى لا ينسى ولا يهمل. فهذا خلق التوكل جلي أمامنا فما علينا إلا أن نقبل عليه ، ونتحلى به لنكون من أهل الإيمان.
الهوامش:
[1] سيد قطب، في ظلال القرآن (4/2092)
[2] انظر لابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (2/813)
[3] ذانظر لابن كثير، تفسير القرآن العظيم (4/624)، ولأبي السعود، إرشاد العقل السليم، (5/751)
[4] حاتم الأصم، أبو عبد الرحمن، التقي بالإمام أحمد، وقال عنه الإمام أحمد بعد أن سمع كلامه وما أعقله من رجل"، وفيات ألأعيان (2/27)، حلية الأولياء، مجلد (7-8)، (8/73) رقم 369.
[5] أبو الفرج بن الجوزي، صفة الصفوة، (حيدر آباد الدكن، دائرة المعارف العثمانية، طبعة 1392هـ) (4/161)
[6] انظر: لابن كثير بتصرف، تفسير القرآن العظيم، (4/587)، ولسيد قطب بتصرف، في ظلال القرآن (6/3589)، وللمراغي بتصرف، في تفسيره (10/127- 128)
[7] انظر ابن جرير الطبري، تفسيره (4/9-10)
[8] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (2/452)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.