الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ إن التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يتحقق إلا بالفعل، والعمل، والسعي والحركة حتى يعتاد المؤمن على ذلك الخلق الرباني، ويمارسه باستمرار في جميع جوانب حياته حتى يكون خلقًا، وعقيدة دائمة لا تنفك عنه، وسمة واضحة عليه، ولا سيما إذا كان هذا العبد المؤمن هو من صفوة خلقه نبي أو رسول، ولقد ذكر القرآن الكريم صفات، وأخلاق الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وضمن هذه الأخلاق خلق التوكل عليه سبحانه وتعالى، فقد حثوا عليه أقوامهم تبعًا لأمر خالقهم جل وعلا، وقال تعالى حكاية: عن موسى وقومه {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 84، 85]، إن وعد الله ماض لرسله وأقوامهم، وهذا موسى عليه السلام، وقومه يخبر الله تعالى عنهم وقال موسى لقومه قوموا بوظيفة الإيمان بالله واعتمدوا عليه، والجأوا إليه واستنصروه فقالوا ممتثلين لذلك {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} فالله تعالى كاف كل من توكل عليه[1].
وهذه الأمور موقوفة على امتثال أمر الله، والثقة، وحسن الظن بالله تعالى، ولن يخلف الله وعده أبدًا"، إن كنتم آمنتم بالله حق الإيمان فعليه توكلوا وبوعده فثقوا إن كنتم مستسلمين مذعنين؛ إذ لا يكون الإيمان يقينًا إلا إذا صدقه العمل وهو الإسلام؛... ذاك أن التوكل على الله وهو أعظم علامات الإيمان لا يكمل إلا بالصبر على الشدائد، والدعاء لا يستجاب إلا إذا كان مقرونًا باتخاذ الأسباب بأن تعمل ما تستطيع عمله، وتطلب إلى الله أن يسخر لك ما لا تستيطع[2]، ويصرف الشيطان حتى لا يكون له حظ لأن التوكل لا يكون مع التخليط"[3].
فموسى عليه السلام يعلم قومه ويريد من قومه التحمل والصدق بالله وترك الأمور بيد الله تعالىن وبذلك الجهد على التحمل والصبر، والرضا بقضائه وقدره، وحثهم على لتوكل، وكرر الشرط تأكيدًا لينالوا المقصود.
فهؤلاء الأنبياء جميعهم من أولهم إلى آخرهم اتفقوا على عقيدة التوكل لأنها لازمة ويستشعر بها العارف ربه المقرب إليه يعلم علم اليقين أن التوكل بعد الإيمان به، فإنه يتحكم بكل ما يحدث لهم، فوجب التوكل لأنه يعد أمرًا يقينيًا له مسوغاته الواقعة وقد فعلوا عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
فهؤلاء هم صفوة الخلق، وها هي أخلاقهم، وها هو توكلهم على ربهم العلي العزيز، التي ترى من خلال تلك الآيات التي وصفت خلق التوكل في أنبياء الله السابقين، وربطه بالعقيدة، وما هذا إلا من منطق ومقتضى الإيمان أن يكون المؤمن متوكلًا على ربه لا على غيره فالمؤمن دائمًا يسعى إلى التحلي بالأخلاق القرآنية، ومحاسن السجايا حتى يكتمل إيمانه.
"فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل...؛ لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام وهو إشارة إلى الإنقياد للتكاليف الصادرة عن الله تعالى؛ وإظهار الخضوع وترك التمرد، وأما الإيمان عبارة عن صيرورة القلب عارفًا بأن واجب الوجود لذاته واحد...؛ وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى، ويحصل في القلب نور التوكل على الله...، والتوكل على الله عبارة عن تفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى، والاعتماد في كل الأحوال على الله تعالى.
واعلم أن من توكل على الله في كل المهمات كفاه الله تعالى كل الملمات لقوله {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، إن هذا الذي أمر موسى قومه به، وهو التوكل على الله هو الذي حكاه الله تعالى عن نوح عليه السلام حيث قال {فعلى الله توكلت} وعند هذا يظهر التفاوت... بين التوكل عند نوح عليه السلام أنه قال {فعلى الله توكلت} وعنند موسى فنوح عليه اسلام كان تامًا، وموسى عليه السلام فوق التمام"[4]، وهذه من لطائف القرآن الكريم في معان التوكل عند الرسل الكرام.
وقد عشنا مع أنبياء الله من خلال بعض الآيات القرآنية نهلنا من تجاربهم وتعلمنا من أخلاقيهم، فهو القدوة، وتاريخهم تاريخ حافل بالعظمة، وحياتهم مليئة بالكفاح، وفي شخصهم سمو النفس، وكمال الخلق، وفي عقيدتهم رسالة الهدى والخير فكانوا بحق مفخرة الأزمان، وأهلا لقيادة الأمم.
فمن خلال قصصهم نستلهم الصبر والعظات، ونستضيء ونسير على منهجهم خاصة في مقام الدعوة إلى الله، وفي الدعوة إلى الأخلاق، قال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، وفي قصصهم ذكر عاطر يصفهم به الله تعالى بأسمى الصفات، والمواهب العقلية، والخلقية كل ذلك ليدل على أنهم الصفوة المختارة من خلق الله، والمثل الأعلى الكامل للبشرية فالقرآن الكريم حين يتحدث عن الأنبياء الكرام ينعتهم بأكمل الأوصاف فيصفهم تارة بالطاعة، وتارة بالإنابة، وتارة بالتوكل، فكل ذلك يشير إلى علو شأنهم، ورفعة مكانتهم، فكانوا هداة العالم، وقادة البشرية.
قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 47]، هذا هو توكل الأنبياء والرسل حكاه عنهم القرآن الكريم، فتحدوا أقوامهم وملوكهم، فواجهوهم بقوة التوكل، ثابتين واثقين.
الهوامش:
[1] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (2/663)، وانظر: للسعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (2/354)
[2] المراغي، تفسير المراغي، (4/144- 145)
[3] انظر للشوكاني، فتح القدير، (2/466).
[4] الإمام الرازي، مفاتيح الغيب، مج9، (18/152)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.